التلقي للتنفيذ (جيل قرآني فريد) (مقال مميز)

الموضوع في 'منتدى الحوار العام' بواسطة أبو محمد القاسم, بتاريخ ‏7 نوفمبر 2010.

  1. جيل قرآني فريد





    هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . وأن يقفوا أمامها طويلاً . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .

    لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم - تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى . نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة .

    هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه ، طويلاً لعلنا نهتدي إلى سرِّه .

    إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أبدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ .. ولم يغب إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟

    لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميًّا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكّل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان . .

    ولكن الله - سبحانه - تكفل بحفظ الذكر ، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمكن أن تؤتي ثمارها . فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة ، وأبقى هذا الذين من بعده إلى آخر الزمان . . وإذن فإن غيبة شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها .



    فلنبحث إذن وراء سبب آخر. لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول ، فلعل شيئا قد تغير فيه . ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ، فلعل شيئا قد تغير فيه كذلك .

    كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع . فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : (( كان خُلقه القرآن )) أخرجه النسائي .
    كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات . . كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة. . فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن (( تصميم )) مرسوم ، ونهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رض الله عنه - صحيفة من التوراة . وقوله : (( إنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني )) رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي جابر .

    وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى . . على كتاب الله وحده ، لتخلص نفوسهم له وحده . ويستقيم عودهم على منهجه وحده . ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رض الله عنه -يستقي من نبع آخر.

    كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد صنع جيل خالص القلب . خالص العقل . خالص التصور . خالص الشعور . خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي ، الذي يتضمنه القرآن الكريم .

    ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع .! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم . وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا .

    وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد.



    هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع . ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد ..

    إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التشوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته . إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندي في الميدان (( الأمر اليومي )) ليعمل به فور تلقيه ! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه (2) .

    هذا الشعور . . شعور التلقي للتنفيذ .. كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي ، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف ، إنّما تتحول آثارًا وأحداثًا تحوِّل خط سير الحياة .
    إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي ،ولا كتاب أدب وفن . ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاج حياة . منهاجًا إلهيًّا خالصًا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقًا . يتلو بعضه بعضًا :



    { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء :106]



    لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطَّرِد في الأفكار والتصورات ، والنمو المُطَّرِد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية - وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ، وتصور لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرِّفُه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى ، تحت عين الله ، في رحاب القدرة . ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .

    إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه . وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .

    مقتطف من مقال "جيل قرآني فريد" للأستاذ سيد قطب رحمه الله
     
  2. الشهاب

    الشهاب عضو جديد

    رد: التلقي للتنفيذ (جيل قرآني فريد) (مقال مميز)

    جزاك الله خيرا أخى عماد الدين على ماتقدمه لنا من هذه النفحات الإيمانية ورحم الله سيد قطب صاحب الظلال والذى لم يسلم رحمه الله من الظلاميون أصحاب الغلو والذى لم يسلم منهم شيخنا الأنصارى مؤسس مجالس القرآن من هؤلاء المغاليين الظلاميين...(يعدون أنفسهم من النورانيين؟!!)وغيرهم الظلاميون !! رحم الله شيخنا الفريد الذى ذكر العلماء وأصحاب الدعوة بالخير بجميع إنتماءاتهم... فقدم الفريد ... الفريد من القول والفعل.. وترك لنا تراثا قرآنيا (مجالس القرآن) وبلاغ الرسالة القرآنية وكتاب الفطرية ....إلخ.. لو أخذت به الأمة لأنتصرت على أعداءها من اليهود والنصارى والرافضه ...
    ولأنتصر جيل القرآن ومجالسه ولاستحققنا نصر الله ومعيته... فأهل السنة هم السواد الأعظم من الأمة وليس حزب أو طائفة ... "
    "وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فاقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير" (سورة الحج - سورة 22 - آية 78)...
    ***

    إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي ،ولا كتاب أدب وفن . ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاج حياة . منهاجًا إلهيًّا خالصًا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقًا . يتلو بعضه بعضًا :



    { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء :106]


    ***




     
  3. رد: التلقي للتنفيذ (جيل قرآني فريد) (مقال مميز)

    و فيكم بارك الله أخي الحبيب "النابلسي". و رحم الله الشيخ "سيد قطب" رحمة واسعة و جزاه الله عنا خير الجزاء.
     
  4. هبة الله

    هبة الله عضو جديد

    رد: التلقي للتنفيذ (جيل قرآني فريد) (مقال مميز)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    جزاكم الله خيرا على هذا المقتطف الرائع الذي يصف الفرق الشاسع بين جيل وجيل !!

    جيل استشعر عظم القران وما يملكه من معجزات تصلح إنسان بأكمله

    وجيل مات شعوره فلم يصل بعد إلى اكتشاف روحه

    وا أسفاه على عبد مازال يتخبّط هنا وهناك ...ولم يعد للمعجزة الخالدة والنور المبين والمنهاج الرباني العظيم!!

    رباه تب علينا لنتوب
     
  5. رد: التلقي للتنفيذ (جيل قرآني فريد) (مقال مميز)

    و أنتم من اهل الجزاء. وفقنا الله و إياكم لما يحبه و يرضاه و شرح صدورنا للعمل بكتابه و تنفيذ كلماته فور تلقيها.
    آمين
    في نفس الموضوع:


    التلقي للتنفيذ .. سمة إيمانية

    بقلم : سلمان بن عمر السنيدي

    تلقِّي النصوص الشرعية لتنفيذ ما فيها من أوامر وتطبيق ما فيها من أحكام من سمات التربية الجادة التي تُفترض في أفراد الأمة الإسلامية .
    وهذه السمة تحتاج إلى رصيد من الإيمان القوي والتربية الزاكية .
    ولقد دلت النصوص الشرعية على أهمية هذه السمة في أكثر من آية وحديث ؛ فمن ذلك قوله تعالى : [ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ] [الأحزاب : 36] وقال تعالى : [ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ][النساء : 65] ولقد ابتلى الله صحابة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بآية في كتاب الله وقفوا منها موقف المتلقي للتنفيذ المشفق على نفسه من القصور ، مع شعور قوي بمسؤولية الأمانة تجاه أنفسهم في تلقي أحكام النصوص الشرعية فظنوا أنهم عاجزون عن العمل بمقتضاها ، فراجعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها إشفاقاً على أنفسهم لا اعتراضاً ؛ ومع ذلك سمعوا وأطاعوا ؛ فنسخ الله حكمها وبقي لفظها .
    وكم من سامع لها بعدهم ممن لا يحمل همّ التلقي للتنفيذ يمر عليها لا يحسب لها حساباً ، ولا يقف عندها بل يستوي الأمر عنده : أنسخت الآية ، أم لم تنسخ ! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت على رسول الله : [ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ][البقرة : 284] قال : فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ثم بركوا على الركب ، فقالوا : أي رسول الله ! كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والجهاد والصدقة ، وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها .
    قال رسول الله : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
    فقالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
    فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها : [ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ ][البقرة : 285] .
    فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل عز وجل : [ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ][البقرة : 286] (قال : نعم) [ رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِنَا ](قال : نعم) [ رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ](قال : نعم) [ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ] (قال : نعم) [1] .
    أهمية هذه السمة :
    تبرز أهمية هذه السمة في الأمور التالية :
    أ -أن الغاية من الأحكام الشرعية التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة هي العمل بها بتنفيذ أوامرها واجتناب نواهيها .
    قال الله تعالى : [ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ ][النساء : 64] ، وقال تعالى [ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ][الحشر : 7] .
    قال الخطيب البغدادي : والعلم يراد للعمل ، كما يراد العمل للنجاة ، فإذا كان العلم قاصراً عن العمل ، كان العلم كلاّ على العالم ، ونعوذ بالله من علم عاداً كلاّ ، وأورث ذلاً ، وصار في رقبة صاحبه غلاّ) [2] .
    ولذلك قال الفضيل : إنما نزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً .
    وقال أبو رزين : في قوله تعالى : [ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ][البقرة : 121] قال : يتبعونه حق اتباعه يعملون به حق عمله .
    * أن الله عاب على أمم سابقة ما تلقوا به النصوص الشرعية فقال عنهم : [قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ][البقرة : 93] ، وقال تعالى عن اليهود خاصة : [ مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ][الجمعة : 5] .
    وعن قوله تعالى : [ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ][البقرة : 101] ، قال مالك بن مغول : تركوا العمل به .
    وقال ابن تيمية : (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ، فذنبه من جنس ذنب اليهود) .
    * أن الإعراض عن آيات الله بتعطيل أحكامها من أعظم صور الظلم .
    قال الله تعالى : [ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ][الكهف : 57] .
    أن الإنسان محاسب ومسؤول يوم القيامة عن علمه كما ثبت من حديث أبي برزة الأسلمي أنه قال : قال رسول الله : (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عمره فيما أفناه ، وعن علمه ماذا عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن جسمه فيما أبلاه) [3] .
    وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : إن أخوف ما أخاف على نفسي أن يقال لي : يا عويمر هل علمتَ ؟ فأقول : نعم ، فيقال : فماذا عملت فيما علمت ؟ * أن الأقوال الصالحة مرهونة بالأعمال الصالحة ؛ فقد قال الحسن البصري : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال ، من قال حسناً وعمل غير صالح رده الله على قوله ، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ، وذلك بأن الله تعالى يقول : [ إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ] [فاطر : 10] .
    * أن العلم النافع لا بد له من العمل وإلا صار حجة على صاحبه قال : (القرآن حجة لك أو عليك) [4] .
    ولذلك قال ابن عيينة : العلم إن لم ينفعك ضرك .
    مظاهر غياب هذه السمة : إن غياب هذه السمة أو وجود خلل فيها يبرز في واقع الأمة صوراً من الخلل والانحراف ومن أبرزها المظاهر التالية : * جعل النصوص الشرعية للتزود الثقافي ، وانحصار استخدامها في الخطابات الإنشائية التي لا رصيد لها في الواقع ولا تأثير لها في تصريف مجرياته .
    * ضعف تعظيم كلام الله تعالى وكلام رسوله ؛ وذلك بالاعتراض عليهما بآراء العقول وتصورات الأفهام التي يبعثها الواقع المنحرف وهوى الأنفس .
    * ضعف الالتزام بالآداب الشرعية والأحكام المرعية ؛ تكاسلاً وتساهلاً وعدم الاكتراث بترك السنن والمستحبات ، بل قد يصل الأمر إلى ترك الواجبات والأركان بلا خوف أو ندم .
    نماذج مشرقة : من أسمى الصور التي تتحقق فيها سمة التلقي للتنفيذ ، تلك الصورة التي يتلقى فيها المؤمن الحث على أعمال مستحبة غير ملزم بفعلها ، فيأخذها مأخذ العزيمة ، ويلتزم بما فيها من أعمال من لحظة تلقيه للنصوص الشرعية بلا تردد أو تكاسل أو انقطاع أو فتور ، وهذه بعض النماذج المشرقة التي تتجلى فيها هذه الصفة :
    1- عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ نزل عليه : [ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ][النصر : 1] يصلي صلاة إلا قال فيها : (سبحانك ربي وبحمدك ، اللهم اغفر لي) [5] .
    2- عن سالم بن عبد الله بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهم ، عن أبيه : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، قال : (نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) قال سالم : فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً) [6] .
    3- عن ابن عمر رضي الله عنه قال : بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ قال رجل من القوم : الله أكبر كبيراً ، والحمد الله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً .
    فقال رسول الله : من القائل كلمة كذا وكذا ؟ ) قال رجل من القوم : أنا يا رسول الله ! قال : (عجبت لها ! فتحت لها أبواب السماء) .
    قال ابن عمر : فما تركتهن منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك [7] .
    4- وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ، قال : سمعت أبي رضي الله عنه ، وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله : (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) ، فقام رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك ؟ قال : نعم ، فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام .
    ثم كسر جفن سيفه فألقاه ، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قُتِلَ [8] .
    5- عن علي رضي الله عنه قال : اشتكت فاطمة رضي الله عنها ما تلقى من الرحى في يدها ، وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبيٌ فانطلقت فلم تجده ؛ فأخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليه ، فجاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلينا وقد أخذنا مضاجعنا ، فذهبنا نقوم ، فقال النبي : على مكانكما .
    فقعد بيننا ، ثم قال : (ألا أعلمكما خيراً مما سألتما ؟ إذا أخذتما مضاجعكما : أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين ، وتسبحا ثلاثاً وثلاثين ، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين ؛ فهو خير لكما من خادم) .
    قال علي رضي الله عنه : ما تركته منذ سمعته من النبي .
    قيل له : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين [9] .
    6- قال الإمام مسلم : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو خالد يعني سليمان بن حيان عن داود بن أبي هند ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوسٍ ، قال : حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسارّ إليه [يُسَرّ به] قال : سمعت أم حبيبة تقول : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِيَ لهُ بهن بيت في الجنة) قالت أم حبيبة : فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله .
    وقال عنبسة : فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة .
    وقال عمرو بن أوسٍ : ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة .
    قال النعمان بن سالم : ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوسٍ [10] .
    7- عن أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : من ركع أربع ركعات قبل الظهر وأربعاً بعدها حرم الله عز وجل لحمه عن النار .
    قالت : فما تركتهن منذ سمعتهن [11] .
    8- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه ؛ يبيت ثلاث ليالٍ إلا ووصيته مكتوبة .
    قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك إلا وعندي وصيتي [12] .
    9- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : اقتلوا الحيّات ، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر ؛ فإنهما يلتمسان البصر ويستسقطان الحبالى .
    قال عبد الله بن عمر : فلبثت لا أترك حية أراها إلا قتلتها .. ) [13] .
    10- عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) [14] .
    قال ابن القيم رحمه الله : (قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما كنت أرى أحداً يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الأواخر من سورة البقرة) [15] .
    11- قال البخاري : ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة حرام .
    إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً [16] .
    12- عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال النبي (صلى الله عليه و سلم): (من قرأ آية الكرسي عقب كل صلاة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) [17] .
    قال ابن القيم رحمه الله : (بلغني عن شيخ الإسلام أنه قال : ما تركتها عقب كل صلاة إلا نسياناً أو نحوه) [18] .
    13- وقال الإمام أحمد رحمه الله : (ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به ، حتى مر بي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً ، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت) [19] .

    ________________________
    (1) رواه مسلم ، ح/125 .
    (2) اقتضاء العلم العمل ، 158 .
    (3) رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح ، وصححه المنذري .
    (4) رواه مسلم ، ح/223 .
    (5) رواه مسلم ، ح/484 .
    (6) رواه البخاري ، 3/5 ، 6 ، ومسلم ح/2479 .
    (7) رواه مسلم ، ح/601 ، ورواه أحمد 4399 .
    (8) رواه مسلم ، ح/1902 ؛ والترمذي 1659 .
    (9) رواه مسلم ، ح/2727 ، وأبو داود ، 4403 ، وأحمد 797 .
    (10) رواه مسلم ، ح/728 ، ك 6 ، ب 15 وروى الحديث النسائي ، 1773 ، وأبو داود 1059 ، وابن ماجة 1131 وأحمد 25543 ، والدارمي 1402 .
    (11) رواه أحمد ، 25539 ، والنسائي ، 1789 .
    (12) رواه أحمد ، 4239 ، ومسلم ، 3075 ، والنسائي ، 3559 .
    (13) رواه مسلم ، 4141 .
    (14) رواه البخاري ومسلم .
    (15) أخرجه أبو بكر بن أبي داود في (شريعة القارئ) بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم .
    (16) انظر الطبقات للسبكي ، 2/9 .
    (17) رواه النسائي وابن السني ، 121 بسند حسن .
    (18) الوابل الصيب ، ص 229 .
    (19) سير أعلام النبلاء ، 11/213 .
     

مشاركة هذه الصفحة