الذِّكْرُ العَدَدِيُّ و الذِّكْرُ المَعْنَوِيُّ

الموضوع في 'منتدى الحوار العام' بواسطة أبو محمد القاسم, بتاريخ ‏18 أكتوبر 2012.

  1. الذِّكْرُ العَدَدِيُّ و الذِّكْرُ المَعْنَوِيُّ

    ..............
    ومن هنا فإننا لم نعتمد في هذا المسلك سوى منهاج السنة النبوية الصحيحة. التي اشتغلت - في مجال إصلاح النفس - بالمعاني أساساً. حيث إنَّ الذِّكر على نوعين، هما: الذِّكْرُ العَدَدِيُّ و الذِّكْرُ المَعْنَوِيُّ.

    فالعددي: هو الذي يرهن فيه المسلم نفسه بأعداد هائلة من الأذكار، تسبيحا وتهليلا واستغفارا... إلخ، بلوغا إلى الآلاف! وعلى هذا كان أغلب طرق الصوفية من المتأخرين خاصة. وتلك طريق طويلة محفوفة بالمخاطر! وقلما تصل بصاحبها إلى بر الأمان.
    وأما النوع الثاني فهو: الذِّكْرُ الْمَعْنَوِيُّ.
    وهو قائم أساسا على قصد ربط المؤمن بربه أبداً، بالأقوال والأفعال والتروك. حيث يجتهد العبد ليحقق في كل حركة، وفي كل كلمة، وفي كل هيأة، من سائر الأفعال والتروك التعبدية التي يدخل فيها، معناها الذي شُرعت له؛ فيكون بذلك في أعلى مقامات الذِّكْرِ. ولذلك كانت الصلاة مثلا بهذا المعنى ذِكْراً، كما في قوله تعالى: (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)(طه: 14)، وكان القرآن أيضا بهذا المعنى ذِكْراً، كما في قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل: 44)، كما كان ترك الكبائر والموبقات – كلما عرضت للمؤمن - ذِكْراً أيضا؛ لأن الوقوع فيها آنئذ لا يكون إلا غفلة منه عن إيمانه، وهو ضد معنى الذكر. ومثاله الواضح ما ورد في الحديث النبوي المتفق عليه، من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن!)([1])، وذلك لما لهذه الأفعال والتروك وأضرابها جميعا من تغذية قوية للقلب، وإمداد له بحقائق الإيمان، وهو معنى الذكر وغايته.
    فإذا أُخِذَ الذِّكْرُ العددي بموازينه الثابتة في السنة الصحيحة، وطُبق على هذا الميزان، كان ذكرا معنويا أيضا، وكانت عدديته تابعة لهذا القصد. لأن الأذكار النبوية التي بنيت على أعداد معينة إنما جعلتها وسيلة لتعميق المعاني أساساً، ولضمان تغذية القلب بها. فالأعداد فيها تابعة للمعاني والعكس غير صحيح.
    وذلك هو الذكر السُّني النبوي. ولذلك ما ثبت في السنة منه إلا ما يدور على المرة الواحدة والثلاث ثم العشرة حتى المائة، على أقصى تقدير. ولم يرد ما يجاوز ذلك ليبلغ المئات بله الآلاف! إذ القصد الشرعي من الذكر إنما هو ربط القلوب بالله، والترقي بها عبر مدارج الإيمان. وهذا إنما يتم بالتحقق والتخلق بالحقائق الإيمانية والصفات الربانية. ولا يكون ذلك إلا بالإبحار في سفائن المعنى، تركيزا على قليل الألفاظ، المكتنـزة بالحقائق الروحية، والمتدرجة بالعبد تربيةً وتزكيةً في طريق السير إلى الله، بما تتيحه له من التدبر والتذكر، والتغذية الإيمانية المنقطعة النظير، التي تقوم بإعادة بناء عمرانه الروحي، وترميم حصنه النفسي. عسى أن ينجح في ابتلاءاتها في مجال التدافع الاجتماعي، والافتتان الدنيوي من أمور المال والأعمال، وسائر معارض الشهوات ومواطنها.
    وعلى ذلك المنهاج كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدرب أصحابه ويعلمهم. وشواهده في السنة كثير، بل ذلك هو فعله - عليه الصلاة والسلام - في نفسه بنفسه. ويكفينا من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنها أن النبي - صلى الله عليه وَسَلَّم - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها – يعني وهي تُسَبِّحُ - ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة على حالها، فقال: (ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟) قالت: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وَسَلَّم: (لقد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: "سبحان الله وبحمده، عددَ خلقِه، ورِضَا نفسِه، وزِنَةَ عرشِه، ومِدَادَ كلماتِه!")([2])
    ومعلوم أن الكثرة من ذلك تُفْقِدُ اللفظَ حقيقتَه في النفس، وتخرجه عن منهاج السنة النبوية؛ فتحتجب أسرارُه وتغيب أنواره! إذْ أن تضخيم جانب من جوانب الدين - بما يخرجه عن أصله المسنون - يؤدي قطعا إلى ضمور جانب آخر، ربما كان أوجب في الدين وأهم. والحكمةُ إنما هي إعطاء كل شيء قَدْرَهُ الذي أعطاه الشرع له.

    مقتطف من كتاب "الفطرية" للشيخ "فريد الأنصاري" رحمه الله
    __________________________

    [1] متفق عليه.
    [2] رواه مسلم.


     

مشاركة هذه الصفحة