القراءة الحداثية للنص القرآني دراسة المفهوم والنشأة والسمات والأهدافموضوع ندوة دولية

الموضوع في 'منتدى الـدراسـات القـرآنـيـة' بواسطة فاطمة الزهراء الناصري, بتاريخ ‏30 مايو 2011.

  1. المملكة المغربية
    جامعة محمد الأول
    الكلية المتعددة التخصصات
    الناظور

    الندوة الدولية حول:
    الحداثة والهوية الثقافية، أية علاقة؟

    يومي 29-30 أبريل 2011


    عنوان المداخلة:

    القراءة الحداثية للنص القرآني
    دراسة نظرية حول المفهوم والنشأة والسمات والأهداف


    دة: فاطمة الزهراء الناصري

    مقدمة:

    لقد أصبح مفهوم الحداثة من المفاهيم الهلامية التي يصعب الإمساك بأطرافها، فاستعمل هذا المصطلح من طرف من شاء كيفما شاء، لذلك نجده أحيانا متسربلا بالخير والإصلاح والتطور والنهوض، ونجده تارة أخرى رمزا للتقليد والتبعية والقعود عن اللحاق بالركب الحضاري، كما تم الخلط بينه وبين مجموعة من المفاهيم تقترب منه أو تبتعد كثيرا أو قليلا، ويزداد الأمر حساسية وتعقيدا عندما يتم ربط الحداثة بالنص القرآني كنص مقدس، من أجل الخروج بقراءة تبعث الحياة في النص وتربطه بالواقع، فما هو المفهوم الصحيح لهذا المصطلح ذي الشجون؟ وكيف نفرق بينه وبين ما يتداخل معه من المفاهيم؟ وما مدى مشروعية وجدوى ما يسمى بالقراءة الحداثية للنص القرآني؟ وهل يمكن اعتبارها إضافة علمية للدرس القرآني الحديث والمعاصر؟ هذا أهم ما سيتم تناوله في هذه المداخلة، وذلك من خلال المحاور الآتية:
    المحور الأول: الحداثة وما بعد الحداثة[ ]المفهوم والنشأة والانتقادات.
    1- مفهوم الحداثة:
    2- نشأة الحداثة
    3- انتقاد الحداثة:
    4- انتقاد ما بعد الحداثة أو الحداثة البعدية:
    5- بين الحداثة والإسلام
    المحورالثاني: القراءة الحداثية للقرآن الكريم المفهوم والسمات والأهداف
    1- مفهوم القراءة الحداثية للنص القرآني
    2- سمات القراءة الحداثية للنص القرآني
    أ- سيادة العقل في العملية التأويلية
    ب- الغموض والتضارب المنهجي
    3- - من أهداف القراءة الحداثية للنص القرآني
    أ- إعادة قراءة النص القرآني
    ب- القطيعة المعرفية بالتراث القرآني وتضخيم الآراء الشاذة


    المحور الأول: الحداثة وما بعد الحداثة[ ]المفهوم والنشأة والانتقادات.

    1- مفهوم الحداثة:

    لا يخلو إيجاد تعريف جامع مانع للحداثة من صعوبات، ليس لعدم وجود قصد للتعريف ولكن لكثرة هذه التعاريف واختلاف مقاصدها، إذ أغلبها لا يعدو أن يكون وصفا لجانب أو أكثر من جوانب هذا المفهوم، والتي يعتبرها علي حرب بمثابة: "جهد يمارسه الفكر على نفسه لا يتوقف، وبناء متواصل للذات في علاقتها بذاتها، وانفتاح أقصى على الكون، وخلق مستمر للعالم"[ ]، ويرى نايف العجلوني أنها: "حركة تفكيكية تستمد معناها وقوى دفعها من رفض أو نفي ما حدث قبلا"[ ]، ومن المفارقات أن نجد بعض الحداثيين أنفسهم يتنكرون لمصطلح الحداثة كحسن حنفي الذي قال: إنه يفضل مصطلح "الاجتهاد" بدل "الحداثة" لأن"لفظ الحداثة لفظ غربي يكثر استعماله في هذه الآونة حتى يبين المثقف العربي أنه مطلع على آخر موضات العصر، وأنا لا أحبذ هذا اللفظ "الحداثة"... لدينا الاجتهاد وهو اللفظ الذي أفضله"[ ].
    بسبب هذا الاختلاف في النظر إلى مصطلح الحداثة عند المفكرين المسلمين، كان من اللازم أن نستمد مفهومها من الفلاسفة الغربيين أنفسهم، فالحداثة عند سلوتر ديجك هي: "حركة ذاتية تولد نفسها بشكل ذاتي، والتقدم هو حركة لأصل الحركة، إنها حركة تستهدف زيادة القدرة على التحرك"[ ]، وهي عند هنري لوفيفر"عبادة الجديد من أجل الجديد"[ ]، ويقول آلان تورين: "أنا أعرف الحداثة اليوم بأنها الدفاع عن الذات بقدر ما هي عقلنة"[ ]، وفي تعريف أكثر شمولية قال جيف فاونتاين إنها: "سلسلة من التحولات في المجتمع المعاصر قائمة على أساس التمدن والتصنيع والعلم والتكنولوجيا والتي أصبحت أساسا لفكرة الشك الديني وعدم الاعتقاد بصحة الكتب المقدسة"[ ].

    من خلال هذه التعاريف مجتمعة يمكننا تلخيص الركائز التي تقوم عليها الحداثة في العناصر الآتية:

    1- الحركة الدائمة التي همها توليد الحركة.
    2- تقديس الجديد من حيث هو جديد لا لاعتبار أخر، ذلك أنه في فلسفة الحداثة تسقط كل معايير التفضيل، ويبقى الزمن وحده معيارا لذلك، فيكون الشيء أفضل من غيره لا لأمر ذاتي فيه، بل لمجرد كونه اللاحق زمنيا، قال جمال سلطان في هذا الصدد: "هل هذه الخاصية الزمانية تعطيها قيمة مطلقة فضلا عن القداسة، بحيث يصبح هذا النتاج مثلا يحتدى...ومعيارا يقاس عليه غيره من النتاجات الإنسانية الأخرى" [ ].
    3- الاهتمام بالحاضر والرفض التام للماضي.
    4- التمركز حول الذات.
    5- تمجيد العقل والسعي نحو العقلنة.
    6- التمدن والتصنيع والتكنولوجيا.
    7- الشك في صحة الكتب المقدسة وفي كل ما هو ديني.
    8- الانفتاح الكامل على الكون.
    وقد اصطبغت القراءات الحداثية للنص القرآني بأغلب هذه المواصفات وقامت على أهم هذه الركائز؛ لذلك فهي تحاول قطع الصلة بالتراث التفسيري، وتغلب العقل على ما سواه من الأصول للنظر في القرآن الكريم،كما أنها تستبعد مفهوم القداسة في التعامل مع نصوص الوحي، لذلك يرى عبد المجيد الشرفي أن إحاطة القرآن بالقداسة يجعلنا لا نهتدي إلى دلالاته العميقة قال: "مهما كان التوجه فإن معظم التفاسير حاولت أن توجد معنى للقرآن في إطار القداسة فلم نوفق إلى بلوغ منطقه العام" .

    2- نشأة الحداثة

    لقد رأى الفيلسوفان شارل بودلير ودونرفال أن سنة1850هي البداية الرسمية لظهور مصطلح "الحداثة"، لكن لابد من الإشارة إلى اختلاف المفكرين حول بداية نشأتها[ ] كحركة فكرية ومجتمعية، بعد أن طرحوا سؤالا كالآتي: إذا كانت الكلمة اللاتينية "الحديث" Modernus قد ظهرت في القرن الخامس للميلاد، والكلمة الفرنسية "حداثة"Modernité قد ظهرت بعد ذلك بحوالي عشرة قرون، فمتى ظهرت الحداثة تعبيرا عن رؤية خاصة للوجود والفكر والمجتمع؟ ألحق"ريتشارد روتي" الحداثة بفكر ديكارت[ ]، وربطها الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" ب"عصر الأنوار"[ ]، وحدد الناقد الأدبي الأمريكي"فريدريك جمسون" تاريخ ميلادها في النصف الأول من القرن العشرين، فالحداثة كمشروع ثقافي هي من صناعة المجتمعات الأوربية، وهي وليدتها الشرعية[ ].
    من خلال معرفة نشأة الحداثة سنقف على الجذور التاريخية للقراءة الحداثية للنص القرآني، ومن ثمة أيضا يلح علينا السؤال عن إمكانية استنساخ هذه التجربة الأوربية إلى العالم الإسلامي، وإسقاط فلسفاتها[ ] على الوحي.

    3- انتقاد الحداثة:

    كثير من الأقلام العربية والغربية كذلك، تتحدث عن أزمة ومأزق الحداثة[ ] وتهافتها، وفي ذات الوقت هناك من المفكرين من ينظر لها ويدعو إليها، بل إن العقود الأخيرة تشهد تنافسا كبيرا حول تمثل الفكر الحداثي وأسلمته! مع العلم أن الحداثة ليست علما بحتا وليست منهجا للبحث يتسم بالحياد، وإنما هي فلسفة ومجموعة من الإيديولوجيات، لهذا وُلِدَت فلسفة جديدة تسمى: "ما بعد الحداثة" Post Modernity"، أجهضت المشروع [ ] الحداثي وسفهته، ومن أهم الانتقادات الموجهة للحداثة ما يأتي: "1- العقل الذي قامت عليه خلق ثقافة أحادية الجانب، تقوم على الثنائيات القاتلة بين العقل واللاعقل، وبين النظام واللانظام... 2ـالإنسان الذي قدسته وأحلته في الوجود بديلا عن الإله، وأعطته حق التحكم في الوجود...لم يأخذ بـعـين الاعتبار أثر تصـرفه على الإنسان والطبيعة معا. 3- العلم الذي يعتبر مرجعية مقدسة بالنسبة للحداثة لكونه أداة الـوصول إلى الحـقيقة،...ترى ما بعد الحداثة أنـه ليس إلا أسطورة[ ]"وذلك لعدة عوامل: أ- عدم خلق المساواة المرجوة منه بين الدول المتقدمة والنامية بل العكس. ب- عدم تمكن التكنولوجيا من حفظ الوقت وتقليل الجهد والضغط بل العكس. ت- لم يساهم العلم في فهم العالم كما كان مرجوا منه.ث- استفاد القطاع الخاص من التطور على حساب أرواح الكثيرين، منهم العلماء. ج- يقدم العلماء أحيانا مصالحهم على حساب الفوائد المتوخاة من البحث العلمي. ح-التقدم كما تراه الحداثة هو مرحلة حتمية سوف تصل إليه كل حضارة سارت على خطاها، وهو ما اتخذه الغربيون ذريعة لسلوك مختلف السبل المشروعة منها وغير المشروعة لتحقيق التقدم"[ ].

    ثم إن تقليد الحداثة أمر غير ممكن "لأن هذه الأخيرة عبارة عن إمكانات متعددة، وليست كما رسخ في الأذهان، إمكانا واحدا، وينهض دليلا على ذلك أن المشهد الحداثي الغربي ليس بالتجانس المظنون، بل فيه من التنوع ما يجوز معه الكلام عن حداثات كثيرة... فهناك باعتبار الأقطار "حداثة فرنسية" و"حداثة ألمانية" و"حداثة إنجليزية"[ ]، غير أن هناك من لا يسلم بهذا ويعتبر الحداثة فوق الزمن"لأنها ليست قرينة للجدة أو المعاصرة، فهي ليست تاريخية وحسب، لأنه إذا كان الجديد والمعاصر يشير إلى الزمن، وكان من تم توصيفا تاريخيا، فإن الحداثة تشير إلى حساسية وأسلوب ما، فهي إذن تعبير عن القيمي، ومعنى ذلك أن الحداثة لا يمكن أن تنتهي ولا أن يتجاوزها الزمن، الحداثة قيمة لا تاريخية" [ ].

    هذا التضارب في طبيعة العلاقة بين الحداثة والتاريخ يعود كما ذكر الدكتور طه عبد الرحمن إلى اختلاف أساس بين التعاريف التي وضعت للحداثة إذ "عرفها البعض بكونها حقبة تاريخية متواصلة ابتدأت في أقطار الغرب...وعرفها آخرون بصفات طبعت بقوة عطاء هذه الحقبة، مع اختلافهم في التعبير عن هذه الصفات وعن أسبابها ونتائجها"[ ]، والواقع أنها خليط من الفلسفات طبعت القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
    وفي سياق الحديث عن الانتقادات الموجهة للحداثة لن تفوتنا الإشارة إلى النقد اللاذع للفيلسوف الألماني فريديريك نتشه، الذي حاول هدم المبادئ والأسس الكبرى التي تقوم عليها الحداثة، كمبدأ "العقلانية" ومبدأ "الفردانية" ومبدأ "الحرية"[ ].

    4 ـ انتقاد ما بعد الحداثة أو الحداثة البعدية

    بعد أن فقد الغرب ثقته في الحداثة ظهرت مدارس فلسفية[ ] لكل واحدة منها موقف من الحداثة المأزومة، ورؤية مختلفة للطريقة التي يجب بها معاملتها، والأسلوب الذي يمكن به تجاوز هذا المأزق، ولأن المقام لا يسمح بإيراد هذه التفاصيل سنقف عند تعريف "ما بعد الحداثة"، وكيف لم تسلم هي أيضا من انتقادات أعمق من التي وجهت للحداثة! لنخلص إلى أن الغرب الآن يعيش حالة من الفراغ والتوقف الفكري والفوضى المعرفية والعبث والاحتضار الروحي، ذلك أن "ما بعد الحداثة" كما يقول الدكتورعبد الوهاب المسيري: "تعني في واقع الأمر النهاية: نهاية التاريخ، ونهاية الإنسانية، ونهاية السببية ونهاية المحاكاة ونهاية الميتافيزيقا ونهاية التفسير"[ ].
    وفي محاولات لتصوير ما بعد الحداثة يرى أحمد حجازي أنها "حركة نشأت في أحشاء الحداثة ذاتها لنقدها أو للتواصل معها والبحث عن البديل"[ ]، وقال ديفيد هارفي: "هي الوضع الذي وجد العالم به نفسه بعد تحطم مشروع الأنوار"[ ]، أما ديك هبدايج فقد اعتبرها "حالة من فقدان المركزية ومن التشعب والتشتت، نساق فيها من مكان إلى مكان"[ ]، وفي محاولة تعريفية أكثر وضوحا وتفصيلا قال عبد الوهاب المسيري: "مصطلح "ما بعد الحداثة"، مصطلح نفي سلبي، وهو ترجمة لمصطلح (post-modernisme)، وأحيانا يطلق على مصطلح ما بعد الحداثة تعبير"ما بعد البنيوية"، باعتبار أن فلسفات ما بعد الحداثة قد ظهرت بعد ظهور وسقوط (الفلسفة البنيوية)، ويكاد مصطلح ما بعد الحداثة يترادف ومصطلح "التفكيكية"، وللتمييز بينهما نقول إن "ما بعد الحداثة" هي الرؤية الفلسفية العامة، أما "التفكيكية" فهي بالمعنى العام أحد ملامح وأهداف هذه الفلسفة، فهي تقوم بتفكيك الإنسان كما أنها منهج لقراءة النصوص يستند إلى هذه الفلسفة"[ ].

    أما خصائص ما بعد الحداثة فسيظهر أهمها من خلال الانتقادات اللاذعة الموجهة إليها والتي يمكن إجمالها في الآتي: 1- ما بعد الحداثة مناقضة لنفسها، بإطلاق القول: إنه ليس هناك حقيقة، وهذا في حد ذاته حقيقة يطلب من كل الناس التسليم بها. 2- سعي ما بعد الحداثة لإثبات عدم مصداقية العقل، مبني على قواعد عقلية، فكيف يطعنون في العقل وموضوعيته بوسائل وحجج عقلية. 3- تضخيمهم من أثر الثقافة على الفرد وزعمهم أن الفرد مسجون داخل ثقافته. 4ـعجز العلم عن اكتشاف وتفسير بعض الظواهر، لا يبرر الطعن في قدرة العلم على سبر واكتشاف كثير من الظواهر الطبيعية، فهذا العجز يدحض الحداثة في إعلاء العقل وجعله مطلقا، ولكنه لا يقوى على أن يكون حجة على إلغاء قيمته والتشكيك في جميع أحكامه. 5- ما بعد الحداثة تحاول إبعاد هيمنة إيديولوجية محددة لكنها في الواقع تعرض على العالم هيمنتها هي كإيديولوجية وفلسفة[ ].

    فإذا كانت "الحداثة"- كما يقول أنصارها- حركة مستمرة تنتقد نفسها باستمرار، وأنها مشروع غير مكتمل، فإن علاقة "ما بعد الحداثة" بالحداثة هي الاستمرار- كما تقول المدرسة الألمانية- لا القطيعة -حسب المدرسة الفرنسية- لذلك اختار محمد سبيلا اسم "الحداثة البعدية" عوض "ما بعد الحداثة"، قال: "هذه الأخيرة- يقصد الحداثة البعدية- ليست إلا الحداثة في مرحلتها الثانية، أي الحداثة وقد وسعت مكتسباتها ورسختها، وسعت مفهومها للعقل ليشمل اللاعقل، ووسعت مفهومها عن القدرات الإنسانية لتشمل المتخيل، والوهم والعقيدة والأسطورة، وهي الملكات التي كانت الحداثة الظافرة، المزهوة بعقلانيتها قد استبعدتها"[ ]، لهذا فمجهود بعض الحداثيين العرب لتصنيف أنفسهم في مرحلة "ما بعد الحداثة"[ ]، والقول بتجاوزها يأخذ طابعا تمويهيا لأن "ما بعد الحداثة" ليس إلا امتدادا وتطويرا لأسس الحداثة، أما الغرب اليوم فيعيش "ما وراء الحداثة البعدية"، الذي يتسم بالرجوع إلى الدين، وهو"السعي للوصول إلى محور روحاني ومعنوي، قد تم ضياعه في دنيا العلمانية"[ ].

    وهنا تلح علينا الأسئلة الآتية: إذا كان هذا حال الحداثة وحال ما بعدها، فماذا تعني مناداة من ينادي بتبنيها في الفكر العربي الإسلامي، بل وإسقاط فلسفاتها في التعامل مع النصوص المقدسة على القرآن الكريم؟ وهل من الضروري دخول نفس الجحور[ ] التي ارتادها الفكر الغربي، حتى إذا لسعته "الحداثة" وجب أن تلسعنا، وعندما تلدغه "الحداثة البعدية" نمد عقولنا لتلدغها؟ إن الحداثة مجموعة من الفلسفات، وأسلمتها تعني أسلمة هذه الفلسفات، فهل هذا ممكن؟؟
    والقراءات الحداثية للقرآن الكريم لا تميز بين بين مرحلة "الحداثة" وبين "ما بعد الحداثة"، إذ تجد الواحد منهم مثلا بنيويا وتفكيكيا في الوقت ذاته.

    5-بين الحداثة والإسلام

    هناك من يقارن بين الحداثة والإسلام فيعتبر أن كل واحد منهما نظام ونسق مختلف كليا عن الآخر قال نادر كاظم: "إن الحداثة لا تقبل أن تنحصر في مجال ضيق كما انتهت إليه فلسفة اليونان، ولا الإسلام كذلك يقبل أن ينحصر في مجال ضيق كما انتهت إليه مسيحية الغرب،...فالمسعى الأول؛ تحديث الإسلام، يقدم الحداثة على حساب الإسلام، والمسعى الثاني؛ أسلمة الحداثة، يغلب الإسلام على الحداثة وهذا يعني أن كل مساعي الدمج بين النظامين لن يكتب لها النجاح، إلا بمحو الطابع الكلي عن النظام المستوعب"[ ]، إلا أنه لابد من التحفظ على مثل هذه المقارنات، ذلك أن التناقض إنما يكون بين ما له نفس الموضوع والمرتبة، ولا يخفى أن الحداثة لا ترقى إلى مستوى الإسلام من حيث هو دين وتصور متكامل عن الكون، ولهذا لا معنى لما يتحدث عنه بعض المفكرين من "تصالح الإمكان الإسلامي مع الإمكان الحداثي"[ ].

    المحورالثاني: القراءة الحداثية للقرآن الكريم المفهوم والسمات والأهداف

    1- مفهوم القراءة الحداثية للنص القرآني

    المقصود بالقراءة الحداثية تلك المدرسة التي تبنى أصحابها فلسفات ومذاهب غربية حديثة، وحاولوا تطبيقها في تفسير القرآن الكريم، متجاوزين الأدوات العلمية التفسيرية المسطرة عند أهل الاختصاص في هذا العلم، ومن أبرز أسماء هذه المدرسة الذين تعاملوا مباشرة مع الآيات القرآنية: محمد أركون، ومحمد شحرور، ونصر حامد... وغيرهم.

    وقد يعبر عن القراءة الحداثية للآيات القرآنية "بالقراءة الحديثة" أو "القراءة المعاصرة" أو"القراءة الجديدة"[ ]، لكن الأقرب إلى مفهوم هذه القراءة بالنظر إلى مضامينها هو نسبتها إلى فلسفة الحداثة ، لأن عبارة: القراءة الحديثة أو المعاصرة أو الجديدة تفيد التحديد الزمني دون الإشارة إلى أية مرجعيات فلسفية، مع العلم أنه لا ينبغي إدانة كل تعامل مع القرآن في العصر الحديث أو المعاصر لمجرد أنه حديث أو معاصر، وإلا وقعنا من حيث لا نشعر في "الحداثة المعكوسة" أو "القدامة" بحيث يكون الزمن هو معيار القيمة، ويكون الفرق الوحيد بين فلسفتنا وفلسفة الحداثة هو أن هذه الأخيرة تقدس الزمن الآني بينما نقدس الزمن الماضي، والحقيقة أن قيمة الأفكار ومعيار التفضيل بينها لا يعود إلى الزمن لا ماضيا ولا آنيا، وإنما يعود إلى مدى التزامها بالمنهج العلمي الموضوعي المجمع عليه في حقل معرفي معين.

    فليس المقصود إذن هو رفض كل الاجتهادات الحديثة أو المعاصرة أو الجديدة في التعامل مع القرآن الكريم وتفسيره، وليس مبعث الحذر من هذه القراءات هو كونها جديدة غير معهودة، لأنه ليس كل جديد مردود متوجس منه، وإنما المقصود تلك القراءات المرتبطة بفلسفة الحداثة التي تقوم على الآنية الزمنية، وعلى إسقاط الفلسفات الغربية على النص القرآني مهما اختلفت طبيعتها عن طبيعته، يعني أنه من الممكن منهجيا وجود اجتهادات تفسيرية حديثة أو معاصرة تتجاوز الاجتهادات القديمة، مع التزامها بالمنهج العلمي المسطر في أصول التفسير وقواعده، كما قال الشاعر سامي البارودي:
    كم غادر الشعراء من متردم***ولرب تال بز شأو مقدم
    ولذلك فمقولة: "ليس في الإمكان أفضل مما كان" إنما تصح جزئيا فقط في مجال علوم القرآن والتفسير، أي في أنواع من علوم القرآن كأسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ....وكل ما يتعلق بالاتجاه الأثري واللغوي...في التفسير، بحيث يكون القرب من زمن الرسالة قيمة مضافة، على خلاف اتجاهات تفسيرية أخرى نشأت حديثا كالاتجاه الاجتماعي، الذي سيمكن المسلمين من تأسيس نظريات قرآنية في النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية....قادرة على مواجهة التحدي الحضاري وتجاوزه بالكشف عن الإعجاز القرآني في العلوم الإنسانية، وكذلك التفسير العلمي الذي أثبت أن الكتاب المسطور القرآن العظيم لا يتناقض أبدا مع الكتاب المنظور الكون...

    كما يجب التنبه إلى الفرق الكبير بين الحداثة والتحديث فإذا كانت الأولى مرتبطة بالأفكار والمعتقدات والفلسفات فإن الثاني يرتبط بالجوانب المادية وبمظاهر الحياة المدنية، لذلك لا يمكن الحديث عن حداثة في الحقل الديني، ولكن يمكن الحديث عن التحديث؛ حيث استعملت الميكروفونات في خطب الجمعة مثلا، واستثمرت بعض القنوات التلفزيونية كأداة دعوية في المساجد... فكل ما يتعلق بالجانب التقني والصناعي والمادي يسمى تحديثا (modernisation) لا حداثة لأنها تتعلق بنمط التفكير والوعي والهوية.، قال هشام شرابي: "التحديث هو سباق التحول الاقتصادي والتكنولوجي كما جرى تاريخيا لأول مرة في أوربا، في حين أن الحداثة هي مجموعة العناصر والعلاقات التي يتألف منها الكيان الحضاري المتميز، فمن حيث هي وعي تشكل أنموذجا ونمطا فكريا تجد فيه أوربا الحديثة هويتها"[ ].

    وقد كان الدكتور طه عبد الرحمن أكثر احتراسا عندما جعل الحداثة صنفين: مبدعة ومقلدة[ ]، لكن فريقا آخر من المفكرين يرفض هذا المصطلح شكلا ومضمونا- بالنظر إلى ظروف ولادته- كزينب عبد العزيز[ ]، بل إن البعض لم يعتبر مفـردة "الحداثة" مفردة عربية سليمة كمفردة "المعاصرة"[ ]، وهذا نوع من المبالغة في الرفض؛ لأن مادة (ح- د- ث) في اللغة العربية تـدل على الكثير من الدلالات التي يقصدها الحداثيون بهذا المصطلح[ ].

    فالأمر إذن يتعلق "بالحداثة" وليس "بالتحديث" ولا "بالتجديد" ولا "بالعصر الحديث"، وعبارة "القراءة الحداثية" أكثر دقة لتصويرها واقع هذه القراءات التي تستند إلى فلسفات غربية المنشأ؛ كالتاريخية والمادية والعلمانية وغيرها...

    2- سمات القراءة الحداثية للنص القرآني
    أ- سيادة العقل في العملية التأويلية
    تعتمد القراءة الحداثية أساسا على العقل في التعامل مع الآيات القرآنية، بل والرأي المجرد عن الدليل حتى فيما يتعلق بالحقائق الغيبية والقضايا التي وردت فيها أحاديث صحيحة وقطعية الدلالة، وهو الشيء الذي لا يتوافق مع أصول وقواعد تفسير القرآن، ولهذا فهم يستبعدون السنة تماما في العملية التفسيرية، ولا يلتفتون مطلقا إلى الآثار الواردة في التفسير.

    قال ابن النقيب في معنى حديث تفسير القرآن بالرأي: "جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي[ ] خمسة أقوال، أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير، الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، والثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا، الرابع: التفسير على أن مراد الله كذا على القطع من غير دليل، والخامس: التفسير بالاستحسان والهوى"[ ]، وإذا تأملنا القراءة الحداثية للآيات القرآنية نجد أن بها جل هذه الخصائص؛ لأن الحداثيين يتعرضون للقرآن من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير، بل إن جلهم غير متخصص في العلوم الشرعية والقرآنية بالخصوص[ ]، وأكثر من ذلك هناك من لا يحسن حتى الكتابة باللغة العربية[ ] فما بالك بتفسير القرآن! ورحم الله الإمام الشاطبي الذي اشترط في المجتهد بلوغ درجة الاجتهاد في اللغة العربية[ ] حرصا منه على عدم إساءة تفسير النصوص الشرعية وإن كان هذا الرأي مبالغا فيه، إلا أنه ينم عن مدى خطورة اللغة في فهم النصوص، ولتغطية النقص في الآليات المعرفية اللازمة للتفسير يسمي الحداثيون تعاطيهم مع القرآن الكريم "قراءة".

    أما الخاصية الثانية للتفسير بالرأي المذموم التي هي تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فكثير كذلك في الكتابات الحداثية التي لا تعرف أن لون ابتلاء العقل بالتكليف- كما ابتلي السمع والبصر وغيرها من الجوارح- هو توقيفه عند المتشابهات، ومن هذا ما أتى به أبو القاسم حاج حمد فيما يخص الآيات المتعلقة ب"يأجوج ومأجوج"[ ] التي هي من علم الغيب ومن أشراط الساعة[ ].

    أما الخاصية الثالثة للتفسير بالرأي المذموم؛ التي هي التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا، فهذا هو صلب القراءة الحداثية للآيات القرآنية؛ تنطلق من الفلسفات الغربية كمذهب أصل، وتجعل التفسير- أو القراءة بالمصطلح الحداثي- تابعا، وهو بالذات ما يحصل عندما تُقرأ الآيات بخلفية علمانية أو تاريخية أو داروينية، بل إن بعض الحداثيين قد حاولوا التأصيل للحداثة مصطلحا ومفهوما من خلال القرآن نفسه[ ]!كما أن هناك الكثير من الدعاوى العارية عن الدليل، والتي لا تستند إلا إلى الاستحسان والهوى.

    ب- الغموض والتضارب المنهجي

    يجمع بين القراءة الحداثية قاسم مشترك هو الغموض، إذ يعتبر الغموض الفكري والمنهجي والمصطلحي ظاهرة بارزة في هذا الخطاب، حيث اتخذ الإغراب والتعقيد تعويضا عن الضحالة الفكرية والتضارب المنهجي الغالب على هذه الكتابات، وقد يبلغ هذا الغموض درجة "الإرهاب المصطلحي" عند بعض الحداثيين في تعاملهم مع القرآن الكريم كمحمد شحرور، بحيث لا يتردد القارئ في البداية باتهام نفسه بقصور الفهم والاستيعاب، فيصرف كل جهده لفك رموز ومغاليـق "الكتاب والقرآن"، لكنه لا يلبث طويلا حتى يكتشف ضحالة المعاني والدلالات، فيكون قد كرس قواه ولهث وراء السراب الذي**** (النور/38)لأن غموض التعبير هو حتما نتيجة لغموض التفكير، وكل استعلاء فكري إنما هو تغطية عن قلة الزاد المعرفي، وهو ما عبر عنه محمد أركون، نفسه فعاب على غيره الغموض والإبهام قائلا: "يستخدمون الرطانة الفلسفية ويتلاعبون بها؛ أقصد الكلام الغامض المبهم الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئا يذكر، أقصد العبارات الملتوية المعقدة التي توهم أنها تحتوي على ألغاز الكون وأسراره وهي فارغة من المعنى"[ ]!
    ثم إن القراءة الحداثية للآيات القرآنية لا تفترض منهجا علميا محددا في التعامل مع النص القرآني، بل تتبنى عدة مناهج مختلفة أو حتى متناقضة في الآن نفسه، فتجد الواحد منهم مثلا يتبنى الماركسية والبنيوية ونظرية التلقي في الوقت نفسه رغم أن بعضها قام على أنقاض بعض، مما يجعل هذا الخطاب بعيدا مطلقا عن الانسجام الفكري أو متسما باللامنهج، وهذا مزية للبحث العلمي بالنسبة لمحمد أركون، ويسميه بالمنهج متعدد الاختصاصات[ ]، وقال في كتابه: "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني": "إن وجهة النظر هذه تتخذ أهمية حاسمة...لأنها هي وحدها التي تجبرنا على الربط بين مختلف أنواع المنهجيات التحليلية" ، فهو من خلال المزج بين العديد من المناهج، ينتظر ولادة فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية، ويغطي على ذلك بما يسميه ب"الإسلاميات التطبيقية" التي يدعي أنها تحتاج إلى مناهج متعددة في نفس الآن.

    والحقيقة أن هذا اللامنهج الذي ينهجه إنما رمى بفكره في العبثية، وقد سبقه إلى ذلك الفيلسوف "فيراباند بول"؛ وهو من فلاسفة ما بعد الحداثة الذين دعوا إلى نظرية الفوضى؛ ألف كتابا بعنوان: "ضد المنهج"، ودعا إلى إعادة الاعتبار إلى التنجيم والكهانة والأساطير، بعد أزمة العقل الغربي الذي كانت الحداثة قد رفعته إلى مستوى التقديس، وألف كذلك كتاب: "وداعا للعقل" حارب فيه العقل والموضوعية، وادعى بأن العلم ليس أدق ولا أنفذ من الأسطورة، ولهذا نجد اهتماما بالغا من محمد أركون بالأسطورة والفكر الخرافي، قال: "ينبغي القيام بتحليل بنيوي لتبيين كيف أن القرآن ينجز أو يبلور (بنفس طريقة الفكر الأسطوري الذي يشتغل على أساطير قديمة متبعثرة ) شكلا ومعنى جديدا...لأنه من المهم أن نعرف مدى تشظي الأساطير المعاد استخدامها إذا ما أردنا أن نطلق حكما دقيقا على الروابط بين الأسطورة والتاريخ وبين العجيب المدهش وبين الوقائع الحقيقية وذلك فيما يخص القرآن" ، وفي هذا الكلام تقليد سافر "فيراباند بول" وأمثاله من الفلاسفة، فهل على تفسير القرآن الكريم أن يتجرع الأخلاط الفكرية المرة التي تسفر عنها الحرب بين النظريات الفلسفية الغربية!

    وعلى العكس من هذا نجد أن في التراث الإسلامي عموما مجموعة من الأنساق الفكرية المنسجمة، حتى وإن كانت تمثل انحرافا عقديا أو غلوا فكريا كما هو الأمر بالنسبة إلى فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة، وقد كان هذا الأمر وراء ظهور الآراء الشاذة عندما يحاول المجتهد الوفاء لمنهجه الفكري[ ].

    2- من أهداف القراءة الحداثية للنص القرآني

    أ- إعادة قراءة النص القرآني

    إن هم الحداثيين اليوم هو إعادة قراءة القرآن، ومحاولة الشرعنة لذلك من خلال القرآن الكريم نفسه، وهنا يلح التساؤل عن مصير القراءة الأولى[ ] التي تقوم على منهج نعرفه، ينبع من القرآن نفسه، رغم وجود بعض الانحرافات- كما في الاتجاه الباطني والمعتزلي مثلا- إلا أن الطابع العام لهذا المنهج هو الانطلاق من داخل النص، لكن القراءة الحداثية لا تجد أي غضاضة في استنساخ وإسقاط فلسفات غربية متنوعة على النص القرآني! والشرعنة لنفسها من فلسفات الحداثة وما بعدها!
    وقد حاول محمد الطالبي التأصيل للقراءة الحداثية من خلال القرآن، وجعل الخلفية التاريخية منهجا قرآنيا فقال: "إن الله هو **** (البقرة، من الآيتين254- 255) ويتبع ذلك أن كلامه حي أبدا بيننا، فينبغي أن أصغي إليه إذن في الحين والآن الذي أنا فيه؛ ما يقول لي الله في هذه اللحظة وفي هذا المكان؟ ولا أستطيع أن أستفهم النص هذا الاستفهام، أي من صلب الحداثة، إلا إذا وضعته أولا في أبعاده التاريخية والزمنية"[ ]، ويعتبر حاج حمد إعادة القراءة هي الحل لكل الصعوبات التي تواجهنا في فهـم القرآن الكريم في الوقت الراهن: "كل الآيات التي تبدو من سياقها الجبرية المتناقضة مع الإطلاق، يجب أن تعاد قراءتها في إطار الإطلاق وضمن توسطات جدلية، كالآية **** (يس/81) فالتوسطات الجدلية تشتمل هنا على ثلاثية تبدأ بالأمر وتتشكل في صيرورتها عبر الإرادة لتنتهي إلى التشيؤ، فهناك صيرورة وليس من خلق فجائي"[ ]، فيجب إذن أن تنبني إعادة القراءة على أساس مفهوم الصيرورة في أصل الخلق ونفي الخلق الفجائي، وقد يستعمل أحيانا مصطلح "الاسترجاع" بدل "إعادة القراءة"، قال: "استرجاعنا للنص القرآني هو استرجاع ألسني رياضي لنتكشف ما تعطيه المفردة القرآنية من عائد معرفي محدد"[ ]، وأكد هذا بأن ما يقوم به: "إنما هو تجديد يتجه إلى استرجاع النص القرآني وفق دلالة معرفية ألسنية للمفردة القرآنية العربية"[ ]، وقد بين للقارئ مسبقا اختلاف العملية التي يقوم بها اتجاه القرآن الكريم عما هو موجود في التراث القرآني فقال: "هنا ستجدون اختلافا كبيرا وكثيرا بين الخلاصات والنتائج التي توصلنا إليها باسترجاعنا للنص القرآني عبر هذه المداخل وما يكاد يجمع عليه علماء أمتنا"[ ].

    لقد علمنا التاريخ أن كل مشروع لهدم بناء حضاري ما يبدأ من إعدام النص المؤسس وإبادة معالمه الدلالية، لذلك فالحداثيون المتذرعون بالتجديد لإعادة قراءة النص القرآني على أسس المنهجيات الفلسفية واللغوية الغربية الحديثة بعد القطع مع التراث التفسيري والبدء من الصفر! إنما يكررون نفس عمل المستشرقين الذين وجهوا سهامهم إلى النص القرآني بشكل مباشر أو غير مباشر بإثارة كل أنواع الشبهات حوله، ويكرسون نفس المحاولة لإبادة المعالم الدلالية للنص المؤسس.

    ب- القطيعة المعرفية بالتراث القرآني وتضخيم الآراء الشاذة

    من الحداثيين الذين سفهوا التراث التفسيري ودعوا إلى التعامل المباشر مع القرآن الكريم، جمال البنا وعبد المجيد الشرفي، قال الأول: "المسلمون فهموا القرآن عبر التفاسير فضلوا...لابد أن نستبعد الالتزام بالتفاسير، إذ لا فائدة فيها، ونقرأ القرآن مباشرة"[ ]، وقال الثاني: "لو أبعدنا- وهذا مجرد افتراض- هذه النصوص الثواني[ ]، وهذه السنة التأويلية، فإننا إذ ذاك نتعامل مباشرة مع النص القرآني بطريقة مختلفة عن هذه التأويلات التاريخية، فما نقوله بالنسبة للنص المقدس، وتعامل المسلمين معه، لا يختلف اختلافا نوعيا مع حكم التقليد في المسيحية(La tradition)، ففي المسيحية الكاثوليكية، نرى أن هذا التقليد له أولوية بالنسبة إلى النص... ولهذا السبب فإن الإصلاح البروتستانتي كان بمثابة رد فعل على هذه الوساطة، وقد رفع البروتستان شعار"الكتاب وحده"[ ]، هذه هي وجهة نظر الحداثيين النهضوية: "الكتاب وحده"[ ]! فما أشبهها من دعوة بصنيع الخوارج عندما أشهروا المصاحف داعين إلى تحكيم القرآن وحده! وهل يحكِّم القرآن غير الرجال؟! وهل يمكن فهم النص و تفعيله خارج أي منهج من المناهج! إنها إيديولوجية قديمة يعيدها التاريخ!

    ثم إن هناك مجالات لا يمكن أن يضاهي فيها المتأخرون الأوائل من المفسرين، سواء الصحابة الذين عاصروا نزول القرآن أم التابعين الذين أخذوا عنهم؛ ومن ذلك كل ما يتعلق باللغة والبلاغة، وهذا أمر بديهي أكده- أحد كبار المنظرين للهرمينوطيقا- "شليرماخر" قائلا: "كلما تقدم النص في الزمن صار غامضا بالنسبة إلينا وصرنا - من ثم- أقرب إلى سوء الفهم لا إلى الفهم، وعلى ذلك لابد من قيام "علم" أو "فن" يعصمنا من سوء الفهم، ويجعلنا أقرب إلى الفهم"[ ]، ومن المقتضيات المنهجية في علم أصول التفسير الأخذ بقول الصحابي ثم التابعي فيما يتعلق بالأمور النقلية واللغوية، وتقديم آرائهما في هذا المجال على رأي المجتهد، وليس في هذا أية دعوة لتذويب الذات في"التراث"، وإنكار القدرة على الإتيان بمثل جهود الأقدمين في التفسير، إذ لم يدع أحد أن في الإسلام نصوصا مقدسة غير القرآن الكريم والسنة النبوية، فالمطلوب إذن إنما هو استلهام أدوات الفهم ومناهج البحث والدرس مع فهم يكفل لنا الإضافة وإتمام البناء.

    وكثيرا ما حاول الحداثيون الاستدراك على علوم القرآن فظهر أنهم لم يستوعبوها أصلا! فأين هم من الاستدراك؟ ومن الأمثلة على ذلك رفض استخدام كلمة "سبب" فيما يتعلق بأسباب نزول القرآن، والدعوة إلى ضرورة استبدالها بعبارة: "تاريخية نزول التشريع"، قال سامر إسلامبولي: "لا يصح استخدام كلمة "سبب" على نزول التشريع الإلهي لأن السبب هو: "ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم"، وهذا غير منطبق على التشريع، لأنه سوف ينزل لا محالة كونه تشريعا إنسانيا عالميا وليس قوميا عينيا، والأصح إطلاق تاريخية نزول التشريع التي تفيد دلالة الوقت والحدث المناسب الذي تم اختياره من قبل الخالق لينزل النص التشريعي بصياغة مناسبة فورا، لأن النص التشريعي ليس للتلاوة وإنما هو تشريع للواقع الاجتماعي، ومن هذا الوجه ارتبطت أحداث معينة بنزول النص التشريعي، ليس كسبب نزول له، وإنما كظرف مناسب لإنزال النص الإلهي إلى حيز التطبيق العملي"[ ]، ينم هذا الكلام ـ رغم أنه مليء بالنفس الاستدراكي ـ على عدم استيعاب صاحبه لمبحث أسباب النزول كما سطره العلماء، فبنى زعمه بتصحيح خطأ السابقين على خطأ منهجي آخر؛ وذلك بإسقاط المفهوم الفلسفي للسبب[ ] على مفهومه في علوم القرآن، مع العلم باختلاف دلالات المصطلحات باختلاف الحقول المعرفية! فاستعمال مصطلح السبب في مبحث أسباب النزول في علوم القرآن، إنما هو على أصله اللغوي، أي الوسيلة و"كل شيء يتوصل به إلى غيره"[ ] كما في قوله**** (الحج/15(.

    ومن منطلق الاعتقاد بالإرادة الإلهية المطلقة لا يلزم من حصول الوسيلة وجود النتيجة، وأن النتيجة غير متوقفة حتما على حصول الوسيلة، لهذا كان تعبير علماء القرآن ب"أسباب النزول"صحيحا، لأنهم يقصدون الأحداث والوقائع التي قدرها الله لتكون وسيلة ومدعاة لنزول الوحي، ولم يستعملوا السبب بمفهومه الفلسفي، إذ الأصل في الكلام حمله على أصله اللغوي حتى يثبت أنه اصطلاح.

    ويكتسب "السبب" دلالة أخرى عند الأصوليين- غير الدلالة اللغوية والمنطقية- إذ هو"ما يكون طريقا إلى الحكم من غير تأثير ولا توقف للحكم عليه"[ ]، وقد فصل الإمام الشاطبي القول في مبحث السبب بما يسمح بملاحظة الفروق الكبيرة بين كل من مفهومه الأصولي والمنطقي فقال: "مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات وإن صح التلازم بينهما عادة، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف، فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها، فإذا أمر بالسبب لم يلزم الأمر بالمسبب، وإذا نهي عنه لم يلزم النهي عن المسبب..."[ ]، فالشاطبي بتركيزه على مسألة عدم التلازم بين الأسباب والمسببات، إنما قصد استبعاد المفهوم المنطقي للسبب عن مفهومه الأصولي، لهذا يجب التنبه إلى أن ما يدعوه الحداثيون بالدراسة النقدية للتراث القرآني، يقوم على الكثير من الخلط المنهجي، مما يجعله على هامش الأعمال العلمية الرصينة.

    وقد حرص الحداثيون على التلويح بالآراء الشاذة في التراث مع أن ضرورة الترجيح غير مقتصرة على الأحكام، بل تشمل كل خلاف في أي مجال من المجالات الفكرية، وهذا لا يتنافى مع قبول التعدد والاختلاف، ولكنه ضد الفوضى والعبثية، والحد الفاصل بينهما هو الدليل، فكل قول لا يستند إلى دليل وجوده كعدمه، ولا يعتبر مجرد وجوده دلالة على صحة المعارضة به، فليست كل الخلافات حقيقية ومعتبرة بحجة وجودها في التراث، وبالتالي كل من جاء بقول له سلف في التراث يكون له الحق في معارضة والطعن في الحقائق الثابتة الراجحة، ويكون بالتالي قوله أصيلا لانتمائه إلى التراث! إنما يريد الحداثيون بهذا الأسلوب إغلاق أفواه من يسمونهم ب"التراثيين"، فيشهرون في وجوههم تأويلات منسوبة إلى التراث أو موجودة فيه فعلا!

    فالحاصل أن القراءة الحداثية للآيات القرآنية ليست منهجا علميا للتعامل مع الآيات القرآنية، يتميز بالحياد ويستند إلى أصول وقواعد، وإنما هي خليط من الفلسفات والإيديولوجيات اتخذت كمنطلقات للتعاطي مع الآيات القرآنية، لهذا اصطبغت بمجموعة من السمات جعلتها قراءة موجهة مسطرة الأهداف مسبقا بعيدة عن الموضوعية والمنهج العلمي، ولا أدل على ذلك من جمعها بين مناهج متناقضة كالبنيوية والتفكيكية وغيرها....


     
  2. رد: القراءة الحداثية للنص القرآني دراسة المفهوم والنشأة والسمات والأهدافموضوع ندوة د

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أرجو من الفريق التقني أصلاح الآيات القرآنية لأنني اعتمدت نسخة إلكترونية بالرسم وبرواية ورش ولكن مع الأسف لم تظهر؟
    بارك الله جهودكم
     
  3. عبد المجيد

    عبد المجيد مشرف ساحة الدراسات القرآنية

    رد: القراءة الحداثية للنص القرآني دراسة المفهوم والنشأة والسمات والأهدافموضوع ندوة د

    الشكر الجزيل لفضيلة الأستاذة الدكتورة فاطمة الزهراء الناصري
    موضوع قيم وجهد طيب
    المنتدى ينتظر منكم المزيد
    تقبل الله منك
     
  4. رد: القراءة الحداثية للنص القرآني دراسة المفهوم والنشأة والسمات والأهدافموضوع ندوة د

    بارك الله جهودكم في هذا المنتدى المشرق بنور القرآن
     
  5. رد: القراءة الحداثية للنص القرآني دراسة المفهوم والنشأة والسمات والأهدافموضوع ندوة د

    موضوع رائع شكراً لكم
     

مشاركة هذه الصفحة