المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) 1- كلمات الابتلاء: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً(2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً)(3). إن نعمة القرآن بما هو نذارة رحمانية مباركة، إنما تنـزلت لتشق طريق النور للعالمين، مشكاةً ربانيةً تتدفق أنوارُها من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنها لجديرة إذن بحمدٍ وشكرٍ يستغرقان حياةَ العبد المسبح ربَّه أبداً! لأن عظمة هذه النعمة أكبر من يحيط بها خيال الإنسان إحصاءً ولا عدا، وأكبر من أن تستنفد البشرية بركاتها وأنوارها! فأي لسان قدير على شكر ما لا ينحصر بلسان؟ إنه لا كمال لثناءٍ على الله - جل جلاله - إلا بما أثنى هو على نفسه، سبحانه وتعالى! ولذلك لم يكن كمالُ شكر نعمة القرآن إلا بالقرآن! فقال تعالى حامداً لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله من القرآن العظيم: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً!) هكذا "تَبَارَكَ" بهذا التعبير الدال على الرفعة والتكثر والزيادة والاستمرار للبركة، من تَفَاعُلِ فِعْلِهَا الرباني، وتَكَثُّرِ نورها الرحماني. فلن تزال بركات الله علينا تترى ما دام هذا القرآن يتلى، وذلك هو الفضل العظيم الذي لا ينقطع خيره أبداً! فتبارك الله بما نزل على عبده من بركات! فكان هذا الفرقان نذارة كونية ورسالة عالمية، يخرق نورُها حجبَ الزمان والمكان؛ ليشق طريق الهدى بقوة؛ كي تستبين سبيلُها للبشرية الضاربة في تيه الظلمات! فلك الحمد ربَّنا كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك! وإنما يتعرف المؤمن على عظمة القرآن، عندما يتعرف على عظمة المتكلم بالقرآن: الله رب العالمين! إذْ قيمة الكلام إنما هي بقيمة من تكلم به. فإذا أبصرت هذا السر انكشفت لك كنوز القرآن! ولذلك قال سبحانه بعدُ مباشرة، على سبيل التعريف بمنـزل القرآن: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). فكأنَّ المتلقي عندما سمع فاتحة السورة: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ).. الآية، ولم يُفصح عن اسم الجلالة: الله؛ تساءل: من هذا (الذي..) إذن؟ فجاء البيان بأوصاف الربوبية المطلقة، بما تتضمنه من معاني الفردانية في الملك، والتنـزه عن الولد والشريك، وشمولية الخلق والتقدير لكل شيء! فتبين إذن أن المنـزل للفرقان هو هذا الرب العظيم، الرب المالك وحده لكل شيء، الخالق وحده لكل شيء! فما من شيء في هذا الوجود، من مُلك السماوات والأرض، إلا وهو صادر عن شؤون ربوبيته، خاضع لعظمة سلطانه، تحت قهره وتدبيره، وحكمة تسخيره وتقديره. ومن هنا صدر عنه - جَلَّ جلالُه - هذا القرآن، على موازين حكمته ورحمته. ذلك هو هذا (الذي) نزَّل الفرقان! فأبصرْ أيَّ فرقانية عظيمة تحمل كلماتُه للعالمين! وأيَّ عبد كريم هذا الذي بُعِثَ به نذيراً للناس أجمعين! وإن تَعْجَبْ، فَعَجَبٌ كل العجب، أمر هؤلاء الذين يُعرضون عن هذه الحقيقة الكونية العظمى! ثم يتخذون من دون هذا الرب العظيم - بما عرفنا عنه من صفات جليلة - آلهة باطلة عاجزة! لا تملك من صفات الربوبية شيئا! (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً). هذه مفاتح معاني الربوبية الحقة: فعل الخلق، وهؤلاء لا يخلقون شيئا بل هم قد خُلِقوا خلقا! وكفى بذلك مفتاحا للتعرف على الله وأي مفتاح! ثم هم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يُحيون ولا يميتون، ولا يبعثون أحدا من بعد موات! فأي آلهةِ زورٍ هذه!؟ وأي أربابِ باطلٍ وبهتان!؟ ثم أي ظلم هذا الذي يقترفه الإنسان الضال الجهول عندما يضرب بحق الخالقية عرض الحائط، ويتمرد على الخالق ويعبد المخلوق؟! كيف وها شؤون الربوبية كلها مرجعها إلى الله؟! فهو الرب الذي لا إله غيره ولا رب سواه! وهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده جل علاه، الأحد الصمد، الذي لا والد له ولا ولد، ولم يكن له كفؤاً أحد! 3- الهدى المنهاجي: وهو يتفرع إلى خمس رسالات، هي كالتالي: - الرسالة الأولى: في أن أول الواجب على المؤمن بهذا القرآن هو شكر المنعِم بتنـزيله. وخير الشكر إنما هو تلقي رسالاته بالدخول في منازله والتخلق بِخُلُقِه، أي تَلَقِّيهِ بما هو مُنَـزَّلٌ تنـزيلاً لا بما هو مُنْـزَلٌ إنزالاً فحسب. لأن الفرقانية لا تحصل للمؤمن إلا كذلك. وقد قال تعالى ههنا: "تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقانَ" هكذا: "نَزَّلَ" بصيغة "فعَّلَ"، من التكرر والتكثر، بخلاف "أنزل" التي تدل على المرة الواحدة. وعلماءُ القرآن على أن "الإنزال" الذي هو من فعل "أنزل" كان للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. وكان ذلك دفعة واحدة في ليلة القدر. بينما "التنـزيل" الذي هو من فعل "نَزَّلَ" كان من السماء الدنيا إلى الأرض منجما أي مفرقا، بقصد التربية والتكوين للإنسان على مهل؛ لبناء النفس المؤمنة والمجتمع الإسلامي، بما يغرس جذوره في تربة العمران البشري، مؤصلة في عمق الوجود إلى يوم القيامة. وهذه الصفة إنما هي خاصة بهذا القرآن. وهو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ)(النساء: 136)؛ لأن الكتب المتقدمة كانت تنـزل جملة واحدة، والقرآن نزل منجماً مفرقاً مفصلاً، آيات بعد آيات، وأحكاماً بعد أحكام، وسوراً بعد سور. وهو قوله تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنـزِيلاً)(الإسراء: 106). فإذا رغبت في تلقي القرآن حقيقةً، لتتخلق بفرقانيته فما عليك إذن إلا الدخول في ميثاق التنـزيل، والشروع في تلقي برنامج القرآن آيةً آيةً؛ حتى يصير لك ذلك منهاج حياة، وتكون - بإذن الله - من الشاكرين لنعمة الفرقان، محققا لرسالة: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ) الآية. - الرسالة الثانية: في أن الصفة الوظيفية الجوهرية لهذا القرآن إنما هي كونه فرقانا، يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والظلمات والنور. وهي صفة عامة شاملة حتى إنه صارت له اسما عَلَماً، تستقل بتسميه على ما استغرقه اسمه من معان! فهو: الفرقان. وفي ذلك رسالة مهمة جدا مقتضاها أن هذا القرآن هو البرنامج الذي وجب على المسلم أن يعتمده في تبين طريق السير إلى الله، وفي تلقي حقائق الإيمان الدالة على سبيل الرشاد. ففيه يجد المؤمن المتبصر معالم كل شيء، مما هو في حاجة إليه من أدوات الكشف عن الصراط المستقيم. إنه بوصلة الخروج من حال الحيرة إلى حال اليقين، ومن ظلمات الفتن إلى نور الحق المبين. وفي ذلك رسالة أيضا في أن ابتغاء الهدى من غيره ضلال! وليس عبثا أن يكون ذلك من آخر وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة؟ وهو قوله البَيِّنُ المليح لأصحابه:* (أبشروا.. أبشروا..! أليس تشهدون ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: بلى! قال: فإن هذا القرآن سَبَبٌ، [يعني: حبل] طرفُه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به! فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً!)(1). ــــــــــــــــــــــــــــ (1) رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعبه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني في الكبير، وعبد بن حميد فى المنتخب من المسند. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 713. لطفا تابع ورقة المجلس في المشاركة التالية: .................................
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) تابع ورقة المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة2) تتمة.. - الرسالة الثالثة: وهي أن هذا القرآن لن يكون له أثره في البشرية من النذارة والإنارة، إلا من خلال نماذج بشرية حية، تشتعل قلوبها هي أولا بحقائقه الإيمانية، حتى تستنير وتتوهج ثم تنير. وذلك قوله تعالى: "على عبده" فهذه صفة مدح وثناء، لأنه أضافه إلى عبوديته. فلما تحقق الرسول بالقرآن خُلقا صار هو - عليه الصلاة والسلام - بذلك للعالمين نذيراً. ولا بديل للمؤمن الداعية إلى الخير عن هذا المنهاج الرباني القويم. تلك حقيقة قرآنية راسخة، بَيَّنَتْ معالِمَهَا التطبقيةَ سيرةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما كابده طيلة دعوته من آي الفرقان. - الرسالة الرابعة: في أن التعريف بوحدانية الله – في هذا السياق - بما هو منـزل الفرقان، وبيان عظمته بتنـزيهه عن الشريك، كل ذلك يستوجب تعظيمَ القرآن المنـزل من عنده، ثم تفريده بالمصدرية، بحيث لا يُتَلَقَّى من أي شيء سواه توجيهٌ من التوجيهات المتعلقة بالإرشاد التعبدي والدعوي للإنسان في الأرض. فالقرآن هو المصدر، والقرآن هو البرنامج، والقرآن هو الوسيلة، والقرآن هو المنهاج. فلا شيء ينافس القرآن في ذلك على الإطلاق! والسنة في ذلك له تبع، فهي دليل السالك عبر مسالكه إلى الله، لِمَا تمثله من كمال العبدية لله. وهما شرطان لا ينفكان: المسلك ونموذجه. وهذا أمر في غاية الأهمية من الناحية المنهاجية. ومخالفة مقتضاه لا تكون سليمة العواقب على الدعوة والداعية، وعلى التربية والسلوك، في التصور وفي الممارسة. فتوحيد القبلة تجاه القرآن في السير إلى الله شرط صحة الطريق. قال سبحانه: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ!)(النمل: 91-93) فتدبر! - الرسالة الخامسة: في أن إخلاص الدين لله هو القضية الأم لهذا القرآن بما هو دعوةٌ للعالمين. ومن هنا كان الشرك هو أكبر ظلم مارسته البشرية الضالة! وذلك بما تنكرت لحق الخالقية، وبما تنكرت لتفرده تعالى بالتوجيه للإنسانية، فيما يصلح معاشها ومعادها! ومن هنا كانت الوظيفة الفرقانية الأولى لهذا الفرقان هي دعوة الناس للرجوع إلى هذا الحق الإلهي العظيم: توحيد الله بالعبادة والإخلاص له في كل شيء. وتلك رسالة في أن مدار دعوة الإسلام إنما هو التوحيد. التوحيد من حيث هو مجاهدة النفس على التحقق بمقام الإخلاص لله الواحد القهار، وإفراده تعالى بالعبادة رَغَباً ورَهَباً، والتحقق من ذلك على مستوى الوجدان، خَطْرَةً خَطْرَةً؛ حتى يصفو قصدُك لله، ولله وحده! وتلك هي القضية الأولى للقرآن عبر جميع الأجيال! فلا يضيعن منك ميزان الحق في ترتيب أولويات الدين والدعوة! ثم تدبَّر هذا البيانَ النبوي العظيم! من خلال ما يرويه الصحابي الجليل معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: (بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ أَخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ!" قُلْتُ: "لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ!" ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ" "يَا مُعَاذُ!" قُلْتُ: "لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ!" ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ!" قُلْتُ: "لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ!" قَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟" قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ". قَالَ: "حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا". ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ!" قُلْتُ: "لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ!" فَقَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟" قُلْتُ: "اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ". قَالَ: "حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ!")( ). فتدبر! 4- مَسْلَكُ التخلق: لا مسلك إلى تَلَقِّي كل تلك الرسالات والتخلق بحقائقها الإيمانية، ومقاماتها الربانية، إلا بأخذ القرآن بقوة! واتخاذه فرقانا في كل كبيرة وصغيرة، حتى لا تشتغل بشيء دون استشارته، ولا تقطع خطوة دون دلالته. فيصير لك منهاج حياة، ويكون لك هو رفيق الطريق. فهذا عصر لا مخرج من تيهه الرهيب إلا بالتمسيك بهذا الكتاب! فيا نفسي الضعيفة المترددة! إن أول شروط الطريق عهدٌ وميثاق! عهد يقطع عنك كل تردد، ويعصمك من كل التفات. وعلامَ الالتفات وإلى مَهْ؟ فيا صاح وَحِّدِ القلبة! وَحِّدِ القبلة! فهذا كتاب الله وحده ضمان النجاة! قال جل ثناؤه: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ؟ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ! وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ. أَفَلاَ تَعْقِلُونَ؟ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ!)(الأعراف: 169-170). ثم إن أول الخطو إلى ذلك هو إدمان تلاوته، وتدبر عباراته، وتلقي إشاراته. ثم صقل القلب بِخُلُقِ التقوى على لهيب أنواره. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.)(الأنفال: 29). فلا ينبغي أن تجد نفسك في سيرك إلى الله - تربيةً ودعوةً - إلا بين منازل تلاوته في خلواتك وصلواتك، وبين مدارج مدارسته في مساجدك ومجالسك. فهذه مدرسة القرآن يا صاح، مفتوحة الأبواب أمامك، على صراط مستقيم يقودك إلى الله، فادخلها بسلام! إنها ميسرة منورة. قال جَلَّ ثناؤه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ؛ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟)(القمر: 17).. ذلك، وإنما الموفق من وفقه الله. ـــــــانتهى.
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) بسم الله الرحمان الرحيم جزاك الله خيرا يا أستاذ لما تبذله من جهد، وقد بلغت كلماتك في سورة الفرقان القلوب فأنارتها وقداستوقفني في كلامكم أنه من أجل تعريف القرآن، لا بد أن نعرف مصدره ومنبعه، فالقرآن كلام الله ، الحكيم ولا حكيم مثله جل وعلا بل هو سبحانه مؤتي الحكمة يوتيها من يشاء ، الخبير ولا خبير مثله جل وعلا بل هو سبحانه صاحب الخبرة ، " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد " العليم ولا عليم مثله جل وعلا بل هو سبحانه مانح العلم ، القوي المتين ولا قوي مثله جل وعلا بل هو سبحانه معطي القوة ، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته جل وعلا والتي يصعب عدها ، وهو سبحانه خالق كل شيء ويعلم كل العلم ما خلق، وماذا يصلح لما خلق ، وقدر كل ماخلق تقديرا وأعطى لكل شيء قدره ، هذا من ناحية كفاءة القائل سبحانه سبحانه ، ولكن كل هذه الشروط لا تكفي لكي يكون الكلام نافعا للمخاطبين ، حيث يمكن أن يكون القائل رغم كل تلك الكفاءات مبغضا للمخاطبين ، فإذن لن ينصحهم إلا بما يضرهم و يخزيهم ، ولكن حال الله جل وعلا مع عباده بخلاف ذلك، فهو يحبنا كل الحب ، فهو الخالق سبحانه ، فكيف لا يحب مخلوقاته ، أوليس يخلق ويعبد غيره ثم يمهل : " وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً" ، أوليس ينعم ثم يشكر سواه ثم يمهل، "وقليل من عبادي الشكور " ألا يدل هذا على الحب الشديد؟ أوليس خيره إلى العباد نازل وهو الغني عنهم ، وشرهم إليه صاعد وهم أفقر شيء إليه ، أوليس أهل ذكره هم أهل محبته ، و أهل معصيته ، لا يــــقنطهم من رحمته ، من جاءه منهم تلقاه من بعيد فرحا بتوبته كل الفرح كما في حديث الفرح بالتوبة ، ومن أعرض عنه ناداه من قريب : ألم يان للمريض أن يقف بباب الطبيب؟ ألم يان للمذنب أن يتوب و ينيب ؟ ألم يان للبعيد أن يرجع من قريب؟ إلى أين تذهب ؟ ( فأين تذهبون ) ألك رب سواي، أم لك رحمان غيري؟ إنه بعباده أرحم من الأم بولدها كما في الحديث ، الحسنة عنده بعشر أمثالها و قد يزيد ، السيئة عنده بمثلها وقد يعفو ، أهناك حب أكثر من هذا الحب؟ فتخيلوا أحبتي في الله ، رب حكيم عليم خبير ، وفوق ذلك يحب مخلوقاته كل الحب ، ثم يوجه الخطاب إليهم ، فكيف سيكون هذا الخطاب، أعطت اللغة استقالتها حيث عجز والله اللسان في إظهار روعة الخطاب، ومصداقية الخطاب ، هذا هو الفرقان الذي نزله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، على عبده محمد صلى الله عليه وسلم تنزيلا ، فكان بذلك للعالمين بشيرا ونذيرا .
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) جزى الله شيخنا الحبيب على هذه الفاتحة الطيبة لهذه السورة ، و كلنا أمل أن نستلم مفاتيح الفرقانية من ربنا جل جلاله من خلال الدخول في ابتلاء هذه السورة. فتبارك الذي نزل هذا الكتاب المبارك " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولو الألباب" ، فلنتأمل كيف أن القرآن وصف بالبركة في سياق "التدبر" و "التذكر" ، ليعلم أن كنوز هذا الكتاب لا تنفد وشلالاته الإيمانية لا تنضب ، لأن منزله هو من لا تحد عطاياه ، فكلماته جل و علا بحار من أنوار الإيمان تتدفق من تحت أرجلنا ، فهل يبقى من درننا شيء إن اغتسلنا من مائه العذب الزلال. ما أعذب كلام الله ، فأعظم به من كلام ؟. إن عظم رب العزة في قلوبنا عظم كلامه فلنمر تلك الكلمات الربانية على قلوبنا " الذي له ملك السماوات و الأرض " ، أي ملكوت هذا ؟، إن شعرك يقف و صدرك يضيق و لا ينطلق لسانك ، لأن هذه الحقيقة هي أعمق من أن تحويها الكلمات، فيأبى لسانك إلا أن ينطق بالقرآن مسبحا و معظما "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ". " تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى" و لنتأمل كيف أن الله لما كلم موسى عليه السلام ناداه " فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني "، لقد أمره بالإستماع إلى الوحي ، وما هي أول قطرات الوحي ؟ إنها التعريف بالله. فيا شرفنا يا أحبتي أن ينادينا الله في كل لحظة و حين "يا عبادي " "يا أيها الذين آمنوا" " يا أيها الإنسان". نداء لا يملك العبد إلا أن يقول العبد لمولاه و سيده " لبيك و سعديك". ألم يركب أحدنا الجو في طائرة تحلق به في حلقة من حلقات الكون ، بماذا نحس إخواني ؟ الطائرة بمن فيها ذرة تائهة في الكون ، ألا يملك هذا القلب إلا أن يسجد لله معظما. إن سر التجاوب مع القرآن يكمن في تعظيم المتكلم ، و الله لقد رأيت بأم عيني شبابا يستعجمون لغة القرآن لكن ما إن يتلى كلام الله إلا رأيتهم خاشعين لله معظمين له لأنهم أدركوا عظمة من يتكلم و لقد أعجبني أحدهم لما سئل عن سر ذلك فعبر بكلمات صادقة تعكس روعة الصلة الربانية بكلام مولانا قال " أرأيت الأم تخاطب وليدها ، يا ترى هل تدرك تمتمات ابنها ورغم ذلك يقع التواصل و الوئام في أجل صوره، كلا إنها لغة الأمومة ببساطة" فقال مستطردا " فكذلكم علاقتي بالقرآن هي علاقة الأم بوليدها، فلغة التخاطب هي لغة الربوبية". و كم رأينا من أم لا تقرأ ولا تكتب ، فإذا تسلمت رسالة من ابنها في دار الغربة تأبطتها و كلما رأتها ذرفت دموعها ... فكيف حالنا مع رسالة رب العالمين و أنى لنا أن ننذر بالقرآن و نتحقق من منازله على سبيل تنزيل آيه على القلوب إن لم نحقق " العبدية لله" ، فالفرقان لا يتنزل بأنواره إلا على من تسلقوا منازل " عباد الرحمان" فأدركوا لب العبادة ألا و هي " التقوى" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). فالتحقق من منزلة التقوى يكسب العبد "فرقانا" (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.)، فهن أين تستمد هذه الفرقانية من غير " فرقانية القرآن"، كما قال شيخنا في رسالته :"ثم إن أول الخطو إلى ذلك هو إدمان تلاوته، وتدبر عباراته، وتلقي إشاراته. ثم صقل القلب بِخُلُقِ التقوى على لهيب أنواره". "وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً" ، إن عبارة "الإتخاذ" توحي بالعزم على الشيء و تنزيله منزلة عالية ، ولنا أن نحصي كم آلهة بشرية و رمزية زاحمت عبوديتنا لله " قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ". هذه خواطر نبتت في تربة قلبي أحببت أن أبثها في أوعية صادقة أحبت القرآن
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) ما شاء الله.. أحسنت أخي فارس بارك الله فيك إن كلماتك تعبث فينا الأمل على أننا جميعا نستطيع - بإذن الله - تلقي حقائق سورة الفرقان! جزاك الله خيرا.
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) جزاك الله خيرا أخي فارس لمنحك إيانا شيئا مما نبت في قلبك نتذوقه ، وقد وجدنا حلاوة الفاكهة التي أثمرها قلبك ، وزرعت في قلوبنا بذورا نرجو من الله جل وعلا أن تثمر ثمارا جديدة نتدارسها جميعا ، وإنه لمثال بديع ذاك الذي ضربته في تشبيه القرآن برسالة الشاب في الغربة إلى أمه ، ولله المثل الأعلى ولا مشاحة في الأمثال ، فجزاك الله خير الجزاء
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) أظن، و الله أعلم، أنهم الدين قال في حقهم المولى جل و على " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " يهدون كما يهدي الكتاب لأنهم أناس قد أصبحوا كتبا وقرائين ممتلئة بكلمات الله تخلقا بعد الصبر على مكابدة لهيبها و يقينهم أنها تصير بردا و سلاما بعد حين ـــــــــــــــــــــــ
يا يحيى خذ الكتاب بقوة بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين و على آله و صحبه الطيبيبن الطاهرين السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً(2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً)(3). إن المتلقي الحقيقي لهذه الآيات -ولم أكنه يوما - يستصحب معه في هذه السياحة القرآنية مشاعر مختلفة من الإحساس بنعم الله عز و جل واستشعار عظمته و الخوف و الحزن و العزم. فأما مشاعر الحمد فترافق المتلقي في هذه الآيات بأكملها, فعندما يقرأ الآية الأولى "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً" يتذكر نعمة القرآن المنزل على سيدنا "محمد" صلى الله عليه و سلم. ثم عندما يتدبر ما وصف الله به نفسه بأنه "الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ" يستحضر قوله عز و جل " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك, و لم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا", و في موضع آخر "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون" الزمر 29. نعم إخوتي: والله إنها لنعمة عظمى أن يكون للإنسان سيد واحد, و رب واحد, و إله واحد. و لكن أكثر الناس لا يعلمون. ثم الإحساس بنعمة الخلق وإتقانه و كماله. و في الآية الأخيرة الإحساس بنعمة الهداية و بنعمة الإسلام و لكننا للأسف كثيرا ما نغفل عنها, وفي العالم غيرنا كثير ممن يتخبط في ضلال الكفر و حيرة البحث عن الحقيقة. أما مشاعر الخوف: فيستشعرها المتلقي في قوله سبحانه و تعالى:"لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً" التي تحيله إلى قوله عز و جل "إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد" سبأ 46. هذا الشعور بالخوف يستشعره الإنسان مرة أخرى عند الآية الأخيرة"وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً" التي تتحدث عن المشركين: لأنه يتذكر قول سيد البشر (صلى الله عليه و سلم): "يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً" وكذا قوله (صلى الله عليه و سلم):"إن القلوب بين يدي الرحمان يقلبها كيف يشاء". فلا يأمن من مكر الله سبحانه و تعالى و يلزم طلب الهداية و الرشاد و التثبيت. وهذه الآية تثير في الإنسان أيضا مشاعر الحزن الذي يتخذ ثلاثة مظاهر: 1) الحزن من نكران الناس جميل مولاهم. 2) الحزن على مصيرهم "يا حسرة على العباد" 3) الحزن من ضعفه و دنو همته, اللذان منعاه من إيصال رسائل السماء لهؤلاء الحيارى. و مشاعر الحزن في مظهرها الثاني ( وهي التي تفضي إلى المظهر الثالث): تستثير في القلب أحاسيس الرحمة على الخلق و الرغبة في إنقاذهم من مصير أسود, فينبعث في القلب العزم على العمل و التغيير, غير أن سحابة سوداء سرعان ما تعكر صفو هذا الجو الروحاني حين يعاين الإنسان أمراضه الروحية و جراحه القلبية الغائرة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وهنا إذ يتغشى الإنسان ما يتغشاه من الإحساس بالضعف و العجز, يلوح اسم "الفرقان" (الذي وصف الله سبحانه و تعالى به كتابه في أول السورة) فيدرك أن كتاب الله هو وحده السبيل و المرشد إلى التفريق و الفصل بين الحق و الباطل. والمتلقي إذ تبين له الطريق و وصف له الدواء بين أمرين: 1) الركون إلى الكسل و الشهوات و الأباطيل خوفا من مواجهة علل النفس على ضوء الفرقان. 2) أخذ الكتاب بقوة و الصبر على لهيبه, و إعطاء العهد و الميثاق. و قبل أن تختار الأمر الثاني يا صاحبي (وهذا ما أتوقعه منك) أحيلك إلى الموقف التالي في بيعة العقبة الثانية: "قال كعب ابن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء ومعه عمه العباس فتكلم القوم وقالوا: خذ منا لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فأخذ بيده البراء بن معرور وهو أحد زعمائهم، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة والسلاح، ورثناها كابرا عن كابر. فتدخل أبو الهيثم بن التيهان وهو أحد ساداتهم فقال: يا رسول الله: بيننا وبين الرجال اليهود حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم وأنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. ثم تكلم زعيم آخر وهو العباس بن نضلة فقال: يا معشر الخزرج: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذ نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن... فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة قالوا: نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه، وفي رواية:والله لا نقيل ولا نستقيل." و انت يا صاحبي إذ تختار الطريق الثاني, فإنك تختار الطريق التي سلكها الأنبياء المرسلون (وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم) و من بعدهم المجددون الربانيون (أسأل الله أن تكون منهم), ومن ثم وجبت إحاطتك بما ينتظرك من المصاعب و العوائق و التحديات و المثبطات. وهذا ما تعالجه الآيات القادمة. لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا ما يسر الله لي كتابته,فإن أصبت فمن الله عز و جل وحده و إن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان الرجيم. و أرجو من الإخوة الكرام و من الشيخ الفاضل تصويب النقص و الإرشاد إلى مواضع الخلل. في أمان الله عز وجل.
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) ما شاء الله! بارك الله فيك شيخنا العبد - وكلنا لله عبد - هذا هو التدبر وإلا فلا..! جزاك الله خيراً، والله لقد تغذينا من هذه اللطائف القرآنية الجميلة! زادك الله وإخواني جميعا من فضله وإحسانه..!
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) إن أخذ الكتاب بقوة لدعوى عريضة قد يدعيها كل منا. فالجميع يقر بلسانه بأن القرآن هو الأصل. لكن ما الدليل الفعلي على صدق هذه الدعوى؟ عندما تجد نفسك غارقا في معترك الحياة و مصاعبها.. هل تستشرف كلام ربك لينير لك دربك؟ أم أنك تعتمد على حولك و قوتك؟ عندما تحاول إصلاح نفسك لكنها تأبى إلا العصيان و التمرد. فهل تبحث عن سبيل "إصلاحية" أخرى؟ أم أنك تثبت على المنهج القرآني و إن طال أمد العلاج و ألمه؟ عندما تتحدث مع أصدقائك في شأن من شؤون الدنيا.. فهل يخطر ببالك أن تستشهد بكلام ربك، إخلاصا و بلاغا لا رياء؟ أم أنك تستثقل ذلك؟ هذه علامات، و غيرها كثير كثير. فأن يكون القرآن منهاج حياة، يعني ببساطة أن يكون منهاج حياة! بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. و أن لا تقدم عليه شيئا. و الله أعلم.
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله أحمد الله ابتداء أن يسر لنا الإجتماع في روضة أخرى من رياض كتابه سبحانه كما أحمده على التوفيق الذي تفضل به على إخوتي السابقين مذ ألقى تلك الحكمة في روعهم حتى صاغوها لنا بأقلامهم فاللهم لك الحمد. لشد ما تأثرت بمقطع ورد آنفا - أجزم أن الرحال الراحلة تشد إلى شيء منه - فأحببت أن نعيد قراءته مرات ومرات حتى نشربه قلوبنا، إذ أن الإنسان غالبا ما يذهل في غمرة أشغاله اليوميةعن شيء يدعى " التوحيد"، و هو كما نعلم أسُّ الدنيا والآخرة. لكن من فضله جل في علاه أن نزَّل إلينا القرآن، و ها هو ذا ـ حبل الله ـ لا يفتأ يحاول استنقاذنا من بين ظلمات النفس والشيطان ويذكرنا في غير ما موضع ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا ) ، وذلكم المقطع هو: " ...ومن هنا كانت الوظيفة الفرقانية الأولى لهذا الفرقان هي دعوة الناس للرجوع إلى هذا الحق الإلهي العظيم: توحيد الله بالعبادة والإخلاص له في كل شيء. وتلك رسالة في أن مدار دعوة الإسلام إنما هو التوحيد. التوحيد من حيث هو مجاهدة النفس على التحقق بمقام الإخلاص لله الواحد القهار، وإفراده تعالى بالعبادة رَغَباً ورَهَباً، والتحقق من ذلك على مستوى الوجدان، خَطْرَةً خَطْرَةً؛ حتى يصفو قصدُك لله، ولله وحده! وتلك هي القضية الأولى للقرآن عبر جميع الأجيال! فلا يضيعن منك ميزان الحق في ترتيب أولويات الدين والدعوة!" يا الله...
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) السلام عليكم أحبة القرآن ،السلام عليكم جلساء الملائكة، السلام عليكم أهل الذكر في الملإ الأعلى، السلام عليكم أهل المجاهدة في تلقي رسالات الفرقان. السلام عليكم أهل الله وخاصته إليكم هذه الرسالة من تلقي رسالات سورة الفرقان (المجلس الأول): -الرسالة :في أن القيام بحق النذارة، دعوة ربانية، وحركة إصلاحية، وصناعة قرآنية مدارها تلقي رسالات القرآن والسيرعلى نهجها النوراني لإخراج العالمين من ظلمات الأهواء والشهوات . وإن القائم بهذا الحق في الأصل عبد قرآني صنعه الله على عينه واستخدمه في استئناف طريق أنبيائه وأوليائه فما كان ليكون للعالمين نذيرا إلا بهذا الفرقان. إنه إذن عبد صنعته آيات القرآن فارتقت به من مرتبة العبد الصالح إلى مرتبة العبد المصلح. ياعجبا لهذا الفرقان الذي يصنع أهله وجنده يا عجبا لهذا النور الذي سكن سويداء قلب هذا العبد فصار مشعا بأنوار الخير والصلاح والإصلاح للعالمين أي نعمة هذه وأي تكريم هذا الذي خص به هذا ا العبد المخلوق ثم أي عزة هذه التي سيشعر بها هذا العبد الفقير في جنب ربه الكريم الذي اصطفاه بكلماته ثم أي حركة بعد ستشهدها هذه الأرض إذا استمسك أهلها بهذا الفرقان ثم كم وكم يحتاج إليه هذا العبد من الحمد والشكر ألا ما أثقلها من نعمة ،وما أعظمها من منة سبحانك ربنا لانحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. فتبارك الله كلما أمسكنا هذا الكتاب أوتلونه أو أبصرنه أو جلسنا لمدارسته وتدبره فتباركت ربنا وتعاليت.
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) ما شاء الله أحسن الله إليك فضيلة الشيخ هشام ولشكر.. والله إنها لإضافات لطيفة، وكلمات موفقة، تلامس أعماق القلوب.. جزاك الله خيرا. اللهم وفقنا وأعنا على تلقي رسالات الفرقان.. آمين.
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) بسم الله الرحمن الرحيم. تأملت قليلا في حال مجتمعنا المغربي، فهالني ما وصل إليه في الإجمال من انحلال خلقي و انهيار لمنظومة القيم. و كأن المجتمع سيارة تنحدر نحو الهاوية و قد فسدت فراملها و تحطم مقودها، فصارت سرعتها بحكم القوانين الفيزيائية تزداد بشكل مطرد نحو المصير المحتوم. و تساءلت حينئذ : هل يمكن للقرآن أن يعيد للسيارة توازنها؟ ألا إن اليقين بهذا الأمر لهو عين الابتلاء حقا. أن تؤمن أن هذه الكلمات الربانية قادرة بإذنه على أن تصلح كل ما أفسده الناس. و إن هذا المعنى هو ما تزرعه الآيات : (الذي له ملك السماوات و الأرض و لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك. و خلق كل شيء فقدره تقديرا). إذ إن كلام الملك العظيم ليس ككلام خلقه. بل هو كلام مبارك ينير ظلمات العالمين في كل زمان، و ليس المجتمع المغربي في زمننا فحسب. فقط ، لو تلقاه ثم بلغه عباد لله حقا! (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده). و هنا تتجلى هذه المسؤولية العميقة : إن نسبتك إلى الله كعبد هو شرف، لكنه أيضا تكليف عظيم لا تملك معه إلا أن تشد المئزر و أن تشمر عن ساعد الجد. فهل نستطيع أن ندخل فعلا في دائرة عباد الله، (عباد الرحمن)؟؟ تلك غاية السورة التي بين أيدينا، سورة الفرقان. لأن من تخلق بأخلاق عباد الرحمن المذكورة آخر السورة هو من يكون فعلا نذيرا و مصلحا لأحوال هذا المجتمع. فعسى أن نكون من هؤلاء.
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) بسم الله الرحمان الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته تساءل الكفار لماذا لم ينزَّل القرآن جملة واحدة و ذلك واضح في قوله تعالى :" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً" وذلك كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور، فأجابهم سبحانه و تعالى بتبيان الحكمة من ذلك بقوله :" كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا "أي نقوي به قلبك فتَعيَه وتحملَه و يكون أيسر على العامل به; فكان كلما نزل وحي جديد زاد رسول الله قوة قلب، جعلنا الله من الشاكرين لنعمة الفرقان و ممن يتلقون آياته آية آية و حفظه في قلوبنا و العمل به متخلقين برسالاته مخلصين النية لله. و بما القرآن الكريم نزَل كالغيث كلما أنزل أحيا أموات الأرض، ونزوله مرة بعد مرة أنفع من نزوله دفعة واحدة، فيا رب اجعل القرآن بتلقينا لآياته آية آية يشفي قلوبنا المرضى و يزرع فيها الخير و الصلاح و يجعلنا أكثر قربا منك و إليك يا أ الله. و كما ذكر شيخنا الجليل أن القرآن الكريم سمي فرقانا لأنه جاء يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والظلمات والنور . منه هنا اسمحوا لي أن أتساءل و حبذا أن يلق سؤالي هذا جوابا : ألا يمكن أن نجزم أن كتاب الله سمي بالفرقان أيضا من حيث هو منزََّل و باقي الكتب جاءت منزَلة؟ لأن الله سبحانه و تعالى فرق بينه و بين باقي الكتب بهذه الميزة التي أوضح الله سبحانه و تعالى الحكمة منها في قول تعالى:" ولا ياتونك بمثلٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ". و الله الموفق اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر. فخير الذكر القرآن الكريم، وخير المجالس مجالس القرآن الكريم، مجالس تدارس القرآن فيما بين المسلمين، إنه لشرف عظيم أن ألتحق بهذا الركب، وبهذا الموكب موكب النور، في زمن كثر فيه الظلام، وطال ليله الرهيب، وصار القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، والمتمسك بدينه كالغريب بين الناس، مجالس التدراس بشائر خير في الأمة، وروادها قناديل تضيئ في ليل بهيم أليل،فهذه بشرى عظيمة بقرب عودة الأمة إلى مكانة الخيرية والشهادة على الناس. أشكر شيخي الكريم الدكتور فريد الأنصاري وأقول له زادك الله بسطة في العلم وعافية في الصحة. وأشكر الإخوة الكرام رواد مجالس الخير واشد على ايديهم بحرارة.
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) السلام عليكم ورحمة الله (" الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان " نَزَّلَ فِعْل مِنْ التَّكَرُّر وَالتَّكَثُّر كَقَوْلِهِ " وَالْكِتَاب الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُوله وَالْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْل " لِأَنَّ الْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة كَانَتْ تَنْزِل جُمْلَة وَاحِدَة وَالْقُرْآن نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا مُفَصَّلًا آيَات بَعْد آيَات وَأَحْكَامًا بَعْد أَحْكَام وَسُوَرًا بَعْد سُوَر وَهَذَا أَشَدّ وَأَبْلَغ وَأَشَدّ اِعْتِنَاء بِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ فِي أَثْنَاء هَذِهِ السُّورَة " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآن جُمْلَة وَاحِدَة كَذَلِكَ لِنُثَبِّت بِهِ فُؤَادك وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَك بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاك بِالْحَقِّ وَأَحْسَن تَفْسِيرًا " وَلِهَذَا سَمَّاهُ هَهُنَا الْفُرْقَان لِأَنَّهُ يَفْرُق بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل وَالْهُدَى وَالضَّلَال وَالْغَيّ وَالرَّشَاد وَالْحَلَال وَالْحَرَام.) " تفسير ابن كثير" ( وَ " الْفُرْقَان " الْقُرْآن . وَقِيلَ : إِنَّهُ اِسْم لِكُلِّ مُنَزَّل ; كَمَا قَالَ : " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون الْفُرْقَان " [ الْأَنْبِيَاء : 48 ] . وَفِي تَسْمِيَته فُرْقَانًا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : لِأَنَّهُ فَرَقَ بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل , وَالْمُؤْمِن وَالْكَافِر . الثَّانِي : لِأَنَّ فِيهِ بَيَان مَا شَرَعَ مِنْ حَلَال وَحَرَام ; حَكَاهُ النَّقَّاش .) " تفسير القرطبي" سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
رد: المجلس الأول لسورة الفرقان (الحلقة: 2) بسم الله الرحمان الرحيم رحمك الله يا شيخنا الحبيب (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا). . التبارك هو تفاعل من البركة , يوحي بالزيادة فيها والفيض والرفعة جميعا . ولم يذكر لفظ الجلالة واكتفى بالاسم الموصول (الذي نزل الفرقان)لإبراز صلته وإظهارها في هذا المقام, لأن موضوع الجدل في السورة هو صدق الرسالة وتنزيل القرآن. فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير, وصورتها الممثلة في الواقع. منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله. ويمثل عهدا جديدا للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله . فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير . فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد. وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة ويبدأ به عهد الرسالة العامة الشاملة: (ليكون للعالمين نذيرا). وفي موضع التكريم لرسول الله [ ص ] وفي مقام التعظيم يصفه بالعبودية: على عبده. والوصف بالعبودية في هذه المواضع له دلالته على رفعة هذا المقام , وأنه أرفع ما يرتفع إليه بشر من بني الإنسان . كما أن فيه تذكيرا خفيا بأن مقام البشرية حين يبلغ مداه لا يزيد على أن يكون مقام العبودية لله . ويبقى مقام الألوهية متفردا بالجلالة , متجردا من كل شبهة شرك أو مشابهة . ذلك أن مثل مقام الإسراء والمعراج , أو مقام الدعاء والمناجاة , أو مقام الوحي والتلقي , كان مزلة لبعض أتباع الرسل من قبل , منها نشأت أساطير البنوة لله , أو الصلة القائمة على غير الألوهية والعبودية . ومن ثم يحرص القرآن على توكيد صفة العبودية في هذه المقام , بوصفها أعلى أفق يرتفع إليه المختارون من بني الإنسان . ويرسم الغاية من تنزيل الفرقان على عبده . . (ليكون للعالمين نذيرا). . وهذا النص مكي , وله دلالته على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى . لا كما يدعي بعض ; المؤرخين غير المسلمين , أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية , ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوح أن تكون عالمية . فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين . طبيعتها طبيعة عالمية شاملة , ووسائلها وسائل إنسانية كاملة ; وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد , ومن نهج إلى نهج . عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا , فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكة بالتكذيب والمقاومة والجحود . . تبارك الذي نزل الفرقان على عبده . .(الذي له ملك السماوات والأرض . ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا). . ومرة أخرى لا يذكر لفظ الجلالة ولكن يذكر الاسم الموصول لإبراز صلته الدالة على صفات يراد توكيدها في هذا المقام: (الذي له ملك السماوات والأرض). . فله السيطرة المطلقة على السماوات والأرض . سيطرة الملكية والاستعلاء , وسيطرة التصريف والتدبير , وسيطرة التبديل والتغيير . (ولم يتخذ ولدا). . فالتناسل ناموس من النواميس التي خلقها الله لامتداد الحياة ; وهو سبحانه باق لا يفنى , قادر لا يحتاج . (ولم يكن له شريك في الملك). . وكل ما في السماوات والأرض شاهد على وحدة التصميم , ووحدة الناموس , ووحدة التصريف . (وخلق كل شيء فقدره تقديرا). قدر حجمه وشكله . وقدر وظيفته وعمله . وقدر زمانه ومكانه . وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير . إن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه , لمما يدعو إلى الدهشة حقا , وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره , في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير, وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا). . (واتخذوا من دونه آلهة , لا يخلقون شيئا وهم يخلقون , ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا , ولا يملكون موتا ولاحياة ولا نشورا . .) والذي لا يملك لنفسه النفع قد يسهل عليه الضر. ولكن حتى هذا لا يملكونه . ومن ثم يقدمه في التعبير بوصفه أيسر شيء كان يملكه أحد لنفسه ! ثم يرتقي إلى الخصائص التي لا يقدر عليها إلا الله: (ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) فلا إماتة حي , ولا إنشاء حياة , ولا إعادتها داخل في مقدورهم . فماذا لهم بعد ذلك من خصائص الألوهية, وما شبهة أولئك المشركين في اتخاذهم آلهة ?! ألا إنه الانحراف المطلق, الذي لا يستغرب معه أن يدعوا على الرسول بعد ذلك ما يدعون , فدعواهم على الله أضخم وأقبح من كل ما يدعون على رسوله . وهل أقبح من ادعاء إنسان على الله وهو خالقه وخالق كل شيء , ومدبر أمره ومقدر كل شيء . هل أقبح من ادعاء إنسان أن لله شريكا ? وقد سئل رسول الله [ص ]:أي الذنب آكبر ? قال:" أن تجعل لله أندادا وهو خلقك . . . " من صاحب الظلال (بتصرف)...