المجلس الخامس عشر في مقام الانتساب إلى مدرسة "عباد الرحمن" الفصل الثالث: في معارج التخرج 1- كلمات الابتلاء: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77). 2- البيان العام: هذا مَنْـزِلٌ من منازلِ الأتقياءِ الكُمَّلِ! غايةٌ في مقامات الجلال والجمال، ونهاية في مراتب الورع والكمال! غاية عزيزة غالية ولكنها ممكنة! وقد (كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ!)([1]) وإنما دونها مجاهداتٌ وطولُ مسير! ومن التزم جادة الطريق مستهديا بالله، غير متخذٍ سوى القرآن الكريم منهاجاً وَصَلَ إن شاء الله! إنها إذن صفة من صفات أهل الله، الأولياء الأتقياء، والصِّدِّيقِينَ النُّجَبَاء! (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً!) إنها البراءة التامة الكاملة من الزور! الزور بشتى معانيه، من كل صور الباطل وضروب المنكر قولا وفعلا! لا شهود له من لدن هذه الثلة المؤمنة! ليس بمعنى أنها لا تقترف شهادة الزور عند استشهادها فحسب، فهذا من بدهياتهم! بل إنها لا تحضر مواطنه أصلا، ولا تشهد نواديه وتجمعاته! فالشهادة هنا هي بمعنى الحضور والشهود والمعاينة والمخالطة، كما في قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ!)(البقرة: 185). بمعنى مَنْ كان حاضراً عند دخول الشهر في بلده، ولم يكن مسافراً. فشهود الزور هنا: حضوره وملابسة مجالسه، ومصاحبة أهله وهم متلبسون به. والزور: جامع لكل ضروب الباطل، منشركيات وخرافيات، وكذب وبهتان، وفسق وفجور! فكل ذلك يقاطع عبادُ الرحمن مجالسَه مقاطعةً تامة! بَلْهَ أن يشاركوا فيه بشهادة أو قول! فشهادة الزور القضائية هي من أعظم الموبقات! وقد صح قول النبي - صلى الله عليه وسلم – فيها لأصحابه، مما رواه الشيخان عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ! وَشَهَادَةُ الزُّورِ! أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ! فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لاَ يَسْكُتُ!)([2]) وفي رواية: (حتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ!) وهذا المعنى داخل طبعا في مقتضى الآية من باب أولى! لكن سياق الدلالة قاض بعموم الأول، وهو نفي حضور الزور بإطلاق! وهو الذي رجحه ابن كثير رحمه الله؛ بدلالة ما بعده من قوله تعالى: ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً!) أي: وإذا اتفق مُرُورُهُمْ بهِ صُدْفَةً مَرُّوا كما يمر عابرُ السبيل، ولم يتدنسوا منه بشيء! لاَ الْتِفَاتاً، ولا نظراً، ولا وُقوفاً، ولا افْتِـتَاناً، ولاَ مُشارَكةً! فكانوا كِرَاماً حقّاً، على أعلى ما تكون منازلُ الكَرَمِ! واللغو: كل كلام أو قول باطل! بدءاً بما كَبُرَ من ذلك وعَظُمَ، مما فيه الضرر على الدين، من تداول الشركيات والكفريات، وسائر التعابير المنكرات، إلى خوارم الأخلاق من عبارات البذاءة والفحش، إلى ما دَقَّ من ذلك، مما لا فائدة منه أصلا من عبث الكلام ولهوه الباطل! كل ذلك لغو. وقد ورد النهي الشديد عن حضور مجالس الكفر والفجور، مما يُسْخَرُ فيه بالدين أو يستهزأ فيه بالآيات! قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ! إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ! إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً!)(النساء: 140). ويلحق به قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ!)(لقمان: 6). ويَدِقُّ النهي عن ملابسة اللغو واللهو إلى درجة التنبيه على التنـزه عن كل ما لا فائدة فيه من القول أو الكلام أو اللعب! فعن عطاء بن أبي رباح قال: (رأيت جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاري يرميان، فمَلَّ أحدُهما فجلس، فقال له الآخر: كسلت؟! سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلُّ شيءٍ ليسَ مِنْ ذِكْرِ الله - عز وجل - فهو لَهْوٌ، أو سَهْوٌ! إلاَّ أربعَ خصالٍ: مَشْيُ الرَّجُلِ بين الغَرَضَيْنِ، وتأديبُه فرسَه، وملاعبتُه أهلَه، وتعليمُ السِّباحَةِ!")([3]) وقد أخذ منه الصحابي الجليل معنى الرماية قياسا؛ فيدخل فيه كل لهو قاصد، أو رياضة هادفة، أو غير ذلك مما يرجى له نفع مشروع. وأما ما تحقق ضرره من القول فهو الزور عينه! وأما ما لا فائدة فيه منه فهو اللغو! وعباد الرحمن منـزهون – بما أكرمهم الله به من جلال وجمال - عن كل ذلك! لا يشهدونه ولا يلتفتون إليه ولا يأبهون به! بل إذا مروا به مروا كراما! اللهم إلا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، مدافعين عن حدود الله. فيصير شهودهم لذلك إذن ضربا من ضروب الجهاد بالقرآن! فَلِلَّهِ دَرُّهُمْ! ولكن؛ أليس للإنسان - مهما كان - سهوات وغفلات؟ وكيف لا؟ وها (كُلُّ بَنِي آدمَ خَطَّاءٌ وخيرُ الخطًّائِينَ التَّوَّابُونَ!)([4]) ولذلك أورد الله - جل جلاله – مشهدا عجيبا لهم، وهو في بيان حال رجوعهم إلى الله كيف يكون؟ أي عند لحظات الضعف الآدمية كلما اعترتهم. لكنها لحظات تَعْبُرُ ولا تقيم، وتُلِمُّ ولا تدوم! تمر كما تمر الخواطر والأشباح في مخيلة الإنسان، فإذا صادفت فترةً أو غفلةً ألهبتْ بسوطها عينَه أو سمعه أو لسانه، أو يده! فإذا به يستيقظ تَوّاً على لسعها! فيبادر إلى ربه مستغفرا تائبا! وبذلك لا يمسهم من فتنة الشيطان إلا اللَّمَمُ! وهو صغائر الذنوب وهَنَاتُ القلوب. كما قال الله في حق المحسنين من المؤمنين، في سورة النجم: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ! إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ!)(النجم: 32). فلا يكون ذلك كله بالنسبة لعباد الرحمن ههنا، إلا فرصة للعودة السريعة إلى الله، على أجمل ما يكون العود، وألطف ما يكون الأوب! فكان مشهد تذكرهم وتذللهم بين يدي ربهم، من أجمل مشاهد الذكرى وأجلها! ومن أوقعها على القلوب العارفة بالله جل علاه! وأنه لمقام وأي مقام! فتدبر هذا ثم أبصر: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً!) الله أكبر! إحالة عجيبة ومقابلة لطيفة بين حال الكفار في سجودهم وركوعهم لآلهتهم، في عبادة جاهلية مظلمة، صَمَّاءَ بَكْمَاءَ عَمْيَاءَ! لا عقل لها ولا سمع ولا إبصار! عَمَى في عَمَى، وضَلال قي ضلالٍ! وبين هؤلاء المؤمنين الربانيين في سجودهم وركوعهم لربهم الرحمن، بما لهم من معرفة بالله الحي القيوم! (الرَّحْمَنُ! فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً!) قد ملأت قلوبَهم معرفةُ الله، وانبهروا بجماله جل علاه، وخضعوا لسلطانه العظيم، فلا تملك القلوبُ بين يديه تعالى إلا تقديم مواجيد الرغب والرهب! وعيا منها بمقامه العظيم! وعي على أتم ما يكون الوعي، وعي يملؤه السمع والبصر، ويزوده القلب بالشوق، وتنيره الروح بمشاهد الجلال والجمال، ليجتمع ذلك كله سجودا بين يدي الرحمن! فأكرم به وأعظم من مقام! كذلك قال الملك الكريم – في موطن آخر - في وصف الْمُذَكَّرِينَ بآيات الرحمن من الأنبياء والصِّدِّقِينَ: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً!)(مريم: 58). يتبع
رد: المجلس الخامس عشر في مقام الانتساب إلى مدرسة "عباد الرحمن" : في معارج التخرج هكذا يخر عباد الرحمن لربهم، كلما وقعت الذكرى بقلوبهم! يخرون كما تخر الجبال الرواس إذا ازَّلْزَلَتْ الأرضُ من تحتها وانهارت من أعلاها! خشوعا وخضوعا لله الواحد القهار! فلا يملك العباد عند ذلك إلا البكاء! البكاء الحار العميق؛ لِمَا وقع في مواجيدهم من المعرفة بِقَدْرِ الله العظيم وبمقامه العلي الكريم! ولِمَا تنـثره أسماؤه الحسنى على قلوبهم المتضرعة من أنوار التسبيح وجمال التقديس! وما يقتضيه ذلك كله من المشاهدة لحقوق الله - جل وعلا - على عباده! فيهرع العبدُ إلى منازلِ البَوْءِ بالنعمة والبَوْءِ بالذنب معاً، تائباً منيباً، تسبقه دموعُه إلى حدائق السجود! ومن ذا قدير على حبس عيون الروح أن تتدفق بأشجان الذكرى؟! إلا من كانوا صُمّاً بُكْماً عُمْياً فهم لا يفقهون! أما عباد الرحمن فقد عرفتَ احتياطهم وورعهم، وقد عرفتَ توبتهم وإنابتهم! وقد شاهدتَ ما شاهدتَ من أنوراهم وأسرارهم، وما يكابدونه من مجاهداتٍ في أنفسهم وفيما حولهم، سيرا إلى ربهم على طريق الآخرة، لا اختلاف ولا التفات، سيرا واحدا راشدا. تلك هي الطريق لمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا! لقد اتبعوها صادقين، كما رسمها لهم الله في كتابه، وسلكوها متفقهين، كما بيَّنَها لهم رسول الله عملاً بسنته. فما بقي إلا أن يرسموها هم أيضا لِخَلَفِهِمْ تربيةً ودعوةً ووصيةً تخلفهم بالعمل الصالح، والأثر الطيب، ذِكْراً بالخير، ودعاءً بالرحمات والغفران، أجراً لا ينقطع إلى يوم القيامة! ولذلك كان من تمام النعمة عليهم أن ختم الله لهم مَدَارِجَهُم العالية؛ طَبْعاً على شهادة تخرجهم من مدرستهم الرفيعة، بهذا الدعاء الحكيم الكريم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً!) وهو دعاء مركب من أمرين عظيمين في الإسلام! - الأمر الأولى: صلاح الأسرة. والأسرة هي ضمان استمرار الدين في المجتمع! ولذلك فقد أولاها القرآن الكريم الحظ الأوفر والمساحة الأوسع من تشريعاته، تفصيلا وتبيينا لأدق أحكامها؛ بما لم يفصله في غيرها من أصول الإسلام وأركانه! وبينت السنة من ذلك تفاصيل أخرى ودقائق وحِكَماً؛ بما لم يكد يدع مجالا للاجتهاد! لما له تعالى من علم - وهو العليم الخبير – من أن سلامة الأسرة يعني سلامة مستقبل الإسلام والمسلمين، وأن خرابها يعني خراب كل ذلك جميعا! ولذلك كان الدعاء بهذه الصيغة الإيمانية الجميلة: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ!) هكذا: "رَبَّنَا هَبْ لَنَا!" لأنها نعمة من النعم الكبرى؛ فلا تكون إلا هِبَةً من الرب الكريم! فمهما بذل الأبوان من جهد واجتهاد في التوجيه والتربية – وواجب عليهما أن يبذلا - فإن الأمر بعد ذلك وقبله بيد الله! لأن صلاح القلوب وفسادها - في نهاية المطاف - إنما هو بيد الله وحده! والقضية قضية هدى! وقد سبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (إنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إلاَّ وقَلْبُهُ بينَ إصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أقَامَ ومَنْ شَاءَ أزَاغَ!)([5]) وكمال العطية وتمام المنة وجمال الهبة في هذا، أن يجعل الله للمؤمن من كامل الأسرة أزواجاً وذريةً "قُرَّةَ أَعْيُنٍ"! لأن انخرام البنيان الأسري من داخله بانحراف أي عنصر من عناصره مؤد إلى انخرام الكل، أو على الأقل إلى اضطراب تناسق البنيان؛ بما يجعل ثمرته الإيمانية في المجتمع ناقصة عن أداء دورها الرسالي، وعاجزة عن تعقيب الدين وتوريثه دعوةً وإصلاحا في الأجيال! ولذلك كان الدعاء شاملا بأن تكون الأسرة كلها بكامل تركيبتها وبجميع عناصرها "قُرَّةَ أَعْيُنٍ"! أي: تَقَرُّ العين وتطمئن إلى أحوالهم الإيمانية؛ بما تشاهده فيهم من صلاح الدين وجمال الإيمان، توحيدا لله وعبادة له، وتمسكا بالإرث الإيماني الذي عليه الأبوان. الإرث الإيماني العالي الرفيع الذي تلقاه هؤلاء الآباء في مدرسة عباد الرحمن، وتخرجوا به وعليه. هكذا في أعلى منازله يورثونه للأبناء والحفدة! ذريةً بعضها من بعض! - والأمر الثاني: إمامة المتقين! وهذا هو ختم شهادة التخرج! (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً!) وإنه والله لختم عظيم! فإنه لا يكون إلا للكُمَّلِ الْمُتِمِّينَ، وللنَّاجِحينَ السَّابقين الأولين! وإنه لم يكن على مستوى النبوة – أي بمعنى الإمامة النبوية - إلا لبعض الأنبياء والرسل، من أولي العزم! وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الأولين والآخرين، الذي تَوَّجَهُ الله بإمامة الأنبياء والمرسلين بَلْهَ عموم المتقين! ولم ينلها سيدنا إبراهيم – عليه الصلاة والسلام - إلا بعد إتمامه ما ابْتُلِيَ به من كلماتٍ إتماما! قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً! قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ!)(البقرة: 124). فقوله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) إنما هو جزاء على ما أخبر به تعالى عن إبراهيم من أنه إذ ابتلاه بالكلمات أتمهن! وجاء فيهن بكمال النجاح! بدءاً بما ابتلاه به من البحث عن الحقيقة نظراً في النجوم، ثم ما ابتلاه به من تحطيم أصنام الطغاة! ثم ابتلاؤه بإلقاء الكفار له في النار! ثم ابتلاؤه بترك زوجه وطفلها الرضيع بوادٍ غير ذي زرع في مهالك الصحراء! ثم ابتلاؤه الرهيب بذبح ابنه إسماعيل!..إلخ. كل ذلك جميعا كان سيدنا إبراهيم – عليه السلام - فيه على أتم ما يكون الفوز والتوفيق! بما لا يستطيعه إلا خُلَّصُ الكُمَّلِ من أولي العزم من الرُّسُلِ! فمن ذا قدير على اقتحام مثل هذه العقبات الجسام بلا تَلَكُّؤٍ ولا تردد؟ ولذلك لما سأل إبراهيمُ "الإمامةَ" لذريته أيضا قال له تعالى: (لاَ يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ!) إنها مشروطة بشروطها! إنها للأوفياءِ الْمُوَفِّينَ فقط! وهو قوله تعالى في موطن آخر: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى!)(النجم:37). فإنما الإمامة كمالٌ! ولا كمالَ إلا بتمامِ النجاحِ بأعلى درجات الامتياز! كذلك هي في النبوة. وكذلك هي في الدعوة والداعية، لكن على المستوى البشري الاجتهادي النسبي! فهو كمال دون كمال النبوة طبعا. ولكنه سَيْرٌ على أثرها، والتزام بنهجها، تدرجا بمراتب الصِّدِّيقِينَ، وتخرجا من مدرسة رب العالمين، بما جعله لمنازل "عباد الرحمن"، من نجاح تام وصلاح كامل! وهو متاح لمن وهبه الله إياه! وقد (كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ)([6]) كما سبق تقريره في الحديث النبوي الصحيح. تلك "إمامة المتقين" وهو معنى مصطلح "الداعية"، الذي كثيرا ما نستعمله اليوم على غير وجهه الحقيقي السليم! وإن العبد لو ينال شرف هذا المقام حقا، ويفوز بهذه الصفة الربانية صدقا، ليكونن إذن من السابقين الأولين! ولك أن تتدبر إن شئت حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواضح الصريح في هذه الوظفية الغالية! لترى فرق ما بين الحقيقة الناقصة في واقعنا، وما بين المثال الكامل! قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ العَالِمَ ليستغفر له مَنْ في السموات ومن في الأرض! والحيتان في جوف الماء! وإنَّ فَضْلَ العَالِمِ على العَابِدِ كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب!)([7]) الله أكبر! فأي عَالِمٍ هذا وأي إمام؟ ألاَ إنما العالِمُ هنا هو الحائز على إمامة العلم والدعوة! كما بيناه في موضعه([8]). وكما يبينه – بصورة كافية شافية - هذا الحديث النبوي الآخر! وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ العَالِمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم! إن الله عز وجل، وملائكتَه، وأهلَ السموات والأرض، حتى النملة في جُحْرِهَا! وحتى الحوت! لَيُصَلُّونَ على مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ!)([9]) فتأمل عُلُوَّ الفرق وبُعْدَ المسافة في قوله صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ العَالِمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم!) إنها الصِّدِّيقِيَّةُ إذن! وإنما كان ذلك لصاحب هذا المقام؛ بما أخلص لله وخَلُصَ له! فدَعَا إليه بمقامه هذا وأرْشَدَ وعَلَّمَ! وإنه لمنـزلٌ عزيزٌ جد عزيز! وقد صحت عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حِكْمَةٌ ذهبيةٌ في هذا، قال: (الْمُتَّقُونَ سَادَةٌ، والفُقَهَاءُ قَادَةٌ، ومُجَالَسَتُهُمْ زِيَادَةٌ!)([10]) فكيف إذا تعلق الأمر بسَادَةِ السَّادَةِ؟! وهم "أئمة المتقين"! أليس ذلك إذن هو غاية المثال وتمام الكمال؟ بلى والله! وإنه لا يكون إلا فضلا من الله ونعمة! ولا يحصل لصاحبه – مع كده واجتهاده - إلا بِعَطَاءٍ رَبَّانِيٍّ وَهِبَةٍ منه تعالى! يتبع
رد: المجلس الخامس عشر في مقام الانتساب إلى مدرسة "عباد الرحمن" : في معارج التخرج ذلك شعاع واحد من أنوار هذا الدعاء الرباني، الخاتم لهذه الرحلة الرحمانية العظيمة! فانظر ما جمع الله فيه من الخير العظيم! الخير الذي لا ينقطع فضلُه ولا تَبِيدُ بَرَكَتُهُ! وليس عبثا أن مدح الله به "عباد الرحمن" بما أتموا من مجاهدات، وبما أكملوا من عبادات، وبما حققوا من نجاحات؛ فكانوا أئمةً في الدين والدعوة جميعا! فلم يزالوا يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً!) فَأَعْظِمْ بِهِ من دعاء! وأكْرِمْ به من عطاء! أما الآن؛ فهذا وعد الله بمقام الجِنَانِ، ووعيده بمصير النيران! خاتمة عامة لهذه السورة العظيمة! خطابا للفريقين: من هؤلاء السادة القادة، ومن أولئك الطغاة الْمَرَدَةِ! (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً. خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً! قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً!) " أُولَئِكَ! " هكذا خاطبهم باسم الإشارة الدال على البعد، والمفيد – في هذا السياق - لمعاني العلو والرفعة! جوابا على الابتداء الواقع في قوله تعالى من بداية السياق: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً..) الآية، فلما حققوا ما حققوا من كمال الفوز، وأحرزوا ما أحرزوا من تمام النجاح، فيما تعرضوا له من ابتلاءات، قال تعالى: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً!) والغرفة منـزلة عالية، عالية جدا، من منازل الجنان! فلو تدري ياصاح ما منازل "أهل الغُرَفِ"؟ ولو تدري ما معنى علوها؟ استمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقربها لك تقريباً، ولكن بهذا المثال! قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ أَهْلَ الجنةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ في الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أو الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُم!)([11]) الله أكبر!.. هناك بذلك المقام العالي من الجنة الواسعة العريضة.. تتلقى الملائكةُ المضيفةُ عبادَ الرحمن بتحيات السلام، أنواراً من جمال السكينة، وأنداءً من أرِيجِ المحبة، تملأ الجوانحَ متعةً لا تفنى لذاتُها في مواجيد الروحِ أبداً! (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً. خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً!) خلودا ممتدا إلى الأبد بتلك المتع كلها! وبتلك النعم كلها! على أحسن ما يكون الاستقرار وأجمل ما يكون الْمُقَام! وإنه لمشهدٌ لا يملك القلب منه إلا الشوق إلى رضوان الله وفضله! وإلا فما للخيال إلى تصور جماله الخارق من سبيل! أوَ تدري أي منـزل هذا وأي مَقام؟ إنه "مَقَامُ الصَّبْرِ" يا صاح! فكل ذلك الفوز العظيم، وكل ذلك النجاح الكبير، عبر تلك الأشواط الشاقة، وعبر تلك المسافات الطويلة! إنما كان لهؤلاء السادة الكبار (بِمَا صَبَرُوا!) نعم، بما صَبَرُوا!.. فليست فصول مدرسة "عباد الرحمن" بالأمر الذي يصبر عليه ضعفاء العزائم، ممن لم يقطع بَعْدُ صلتَه بأهل التراب، وبشهوات التراب، ورغائب التراب! لا قدرة لجناح الروح على الطيران العالي؛ مَا عَلِقَتْ بريشه أطَيْانُ الذنوب ووَحَلُ الخطايا والآثام! وهو ما تنـزه عنه عباد الرحمن، وتخلصوا من أدرانه وأثقاله؛ عندما دخلوا تحت شلالات مدارس عباد الرحمن، بكاءً بالليل ودعوةً بالنهار! فنالوا ما نالوا من مقامات التوبة والغفران! وأحرزوا ما أحرزوا من منازل الرحمة والرضوان! فيا قلبي المغرور! إن الإمامة ابتلاء! وإن الابتلاء صبر واصطبار..! فهل كنتَ فعلا من الصابرين؟ الصبر! تلك هي القضية وتلك هي خلاصة السورة كلها! كلمةً كلمةً، وابتلاءً ابتلاءً! وأخيراً.. جاءت الكلمةُ الخاتمة في هذه السورة، بيانا نهائيا موجها إلى البشرية جمعاء! ليختم سبحانه السورة بما بدأها به! نذارةً شاملةً للعالمين وبلاغاً عاما للناس أجميعن! (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ! فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً!) لكنه عموم يتبعه خصوص. عموم للناس نذارةً وبياناً، وخصوص لمن كذَّب منهم وعيداً بالعذاب اللازم الحتم. فهو تعالى في الخطاب العام يقرر أنه ما خلق البشرية إلا لعبادته. فلا معنى لوجودها أصلا إلا هذا! وهو معنى قوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ!) أي قل للناس أجمعين – أيها الرسول المبلغ نذارةَ الرحمن – إن الله لا يكترث بكم ولا يحفل بكم إن أنتم لم تؤدوا الوظيفة التي خلقكم من أجلها، وهي التوجه إليه تعالى بالتوحيد والإخلاص، إيماناً وعملاً، وذلك حقه العظيم عليكم! وعبَّر سبحانه عن ذلك بـ"الدعاء"، وفيه من الدلالة اللطيفة أن المستفيد من الإيمان والعبادة - في نهاية المطاف - إنما هو أنتم! أنتم الذين في حاجة إليه؛ فتدعونه رغباً ورهباً. وإنما الفقير ذو الحاجة هو الذي يدعو. وذلك هو مخ العبادة: التذلل والافتقار إلى الله! وكل الدين إنما يدور حول هذا المعنى. أما هو سبحانه فهو الغني الحميد. فما قيمةُ عَبْدٍ شَرَدَ خارجَ مَدَارِهِ الطبيعي، الذي خُلِقَ من أجل الدوران فيه، فجعل يصطدم بالنظام الكوني كله، إفسادا وتخريبا؛ إذْ ضل عن فَلَكِهِ الحكيم!؟ ما قيمتُهُ بعد ذلك إلا أن يُطرد من هذا المدار بالإهلاك والتتبير! ولذلك كانت العبارةُ الأخيرةُ التفاتةً ترهيبيةً من جلال الله العظيم! ألقاها الملك الجبار وعيداً شديداً إلى الكفرة المردة، دون أي تسمية لهم ولا تكنية، لا باسم صريح، ولا باسم إشارة! وإنما أهملهم إهمالا، وأذلهم إذلالا! فجعلها كلمةً واحدةً! وحُكْماً نهائيا واحداً: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً!) أي: أما أنتم - أيها المكذبون - فقد استوجبتم الهلاك والعذاب لزوما؛ بما تمردتم على حقوق الله جل وعلا، وعلى سلطانه العظيم!([12]) ذلك هو "الفرقان" الذي جاءت هذه السورة بأجمعها تحمله: نذير واقع من السماء بالحق! ثم صراع ناشئ في الأرض بينه وبين الباطل! ينتهي دائما بالفصل الفرقاني ما بين فريقين، وما بين نموذجين، وما بين طريقين، وما بين مدرستين، وما بين مصيرين! ببيانٍ شافٍ كافٍ، يحمل من النذارة للعالمين ما لو تدبره الإنسان واستثمره توبةً نصوحاً، لجعل اللهُ له نوراً يمشي به، وفُرْقَاناً يَتَبَصَّرُ بِه! ذلك، وإنما الموفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ الله، ولاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله.
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج الهوامش: [FONT="][1][/FONT][FONT="] متفق عليه.[/FONT] [FONT="][2][/FONT][FONT="] متفق عليه.[/FONT] [FONT="][3][/FONT][FONT="]قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد. وصححه الألباني في تعليقه عليه. ن. صحيح الترغيب.[/FONT] [FONT="][4][/FONT][FONT="] أخرجه أ[/FONT][FONT="]حمد والترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن أنس مرفوعا. وحسنه الألباني. حديث رقم: 4515 في صحيح الجامع.[/FONT] [FONT="][5][/FONT][FONT="] أخرجه الترمذي عن أم سلمة مرفوعا. وصححه الألباني في صحيح الجامع. وقد روي بطرق أخرى صحيحة عن غير واحد من الصحابة في كتب السنن.[/FONT] [FONT="][6][/FONT][FONT="] متفق عليه.[/FONT] [FONT="][7][/FONT][FONT="] أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان، عن أبي الدرداء مرفوعا. وصححه الألباني: حديث رقم : 6297 في صحيح الجامع[/FONT][FONT="].[/FONT] [FONT="][8][/FONT][FONT="] ن. "مفهوم العَالِمِيَّةِ" للمؤلف.[/FONT] [FONT="][9][/FONT][FONT="]أخرجه الترمذي عن أبي أمامة مرفوعا. وصححه الألباني، حديث رقم: 4213 في صحيح الجامع.[/FONT] [FONT="][10][/FONT] [FONT="] رواه الطبراني في الكبير. [/FONT][FONT="]و[/FONT][FONT="]قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله موثقون.[/FONT][FONT="] كما رواه ابن النجار عن أنس رضي الله عنه بلفظ: (العلماء) بدل (الفقهاء). وقال العجلوني في كشف الخفاء: رجاله ثقات. كما روى نحوه الديلمي عن علي رضي الله عنه.[/FONT] [FONT="][11][/FONT][FONT="] متفق عليه.[/FONT] [FONT="][12][/FONT] [FONT="]جعل الإمام البقاعي: الضمير في قوله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) يعود على الكفار. فقال رحمه الله مفسرا: أي: ((ما يعتد بكم شيئا من الاعتداد لولا دعاؤكم إياه وقت الشدائد، فهو يعتد بكم لأجله نوع اعتداد، وهو المدة التي ضربها لكم في الدنيا لا غيرها، بسبب أنكم قد كذبتم!) ن. نظم الدرر. وقال الشوكاني: (والخطاب لجميع الناس، ثم خص الكفار منهم فقال: "فقد كذبتم") فتح القدير: 4/131.[/FONT]
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج السلام عليكم و رحمة الله. عجيب أمر عباد الرحمن أولئك! عندما تَتَبَّعُ صفاتهم تجدُ أقواما ذوي حساسية إيمانية رفيعة. المراقبة و المحاسبة سمتهم، و الصبر على المقامات العالية دأبُهم. انظر إن شئتَ إلى هربَهم من مشاهد الزور، و إلى سرعةِ يقظتِهم عند إبصار حقائق الإيمان.. كل هذا يرسمُ في مخيلة المشاهِد صورة زهاد عباد نساك في صوامعهم... لكن... استمع إليهم الآن و هم يناجون ربهم في الأسحار، في "الصوامع". ماذا يطلبون، ما غاية أمنياتهم؟ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً. عجيب! أما زالت الدنيا حاضرة في وجدانهم؟ بلى! إذ لا رهبانية في الإسلام. لكن هؤلاء الأفذاذ ينظرون إلى الدنيا نظرة أخرى، من أعلى.. يبصرون ذرية تعبد الله من بعدهم و تحمل رسالات الله إلى العالمين. يبصرون أمة من الناس تقتدي بأفعالهم، و تكون صدقة جارية بعد مماتهم. فأي كسب هذا، و أي فضل؟! إنها منازل عالية.. منازل تستحق الغرف العالية في جوار الرحمن. و لهم من دون ذلك الذكر الحسن و لسان الصدق في العالمين. فلله درهم من رجال و نساء!
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج الاستماع إلى الآيات : [media]http://www.m5zn.com/uploads/2010/7/9/embed/0709100407241bo3j6ycvtciqo.wma[/media]
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا مقام الختام، ختام وأي ختام، ختام يلخص من هم عباد الرحمان، وكيف وصل عباد الرحمان إلى مقام عباد الرحمان، اللهم اجعلنا من عباد الرحمان. كما تفضل أستاذنا رحمه الله، وصل عباد الرحمان إلى ما وصلوا إليه بالصبر، خير عطاء، وأوسع عطاء، "وما أعطي أحد عطاء خيرا ولا أوسع من الصبر" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. هذا هو الصبر، عطاء من عند الله، وهبة من الله، فإذن، أن تكون عبدا من عباد الرحمان أيضا عطاء وهبة، لأنه لا وصول إلى ذلك إلا بالصبر، والصبر عطاء. فلماذا إذن يصف الله لنا الهبات وهي هبات يعطيها من شاء وليس للإنسان فيها تحكم ؟ القرآن الكريم كلام الله، ليس فيه وصف لخُلُقٍ يستحيل التخلق به؛ وأيضا، الله لا يظلم أحدا، فلا يمكن أن يعطي لهذا صبرا هكذا عبثا من غير استحقاق، وأن يحرم شخصا آخر من الصبر عبثا. حاشاه حاشاه، وسبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. فما هو الحل إذن لهذا الإشكال؟ الحل هو أن الصبر عطاء، ولكنه لا يعطى عبثا لأي كان، بل يعطى لمستحقه. فكيف يمكننا الوصول إلى الصبر ومن ثم إلى مقام عباد الرحمان؟ حل كل هذا هو الدعاء، "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ". ولذلك كان الدعاء هو العبادة، الدعاء هو الدين كل الدين، وكلما كان دعاء المرء قويا كثيرا خاضعا متذللا لله الواحد القهار، كلما كانت مكانته أعلى عند الله، وكلما أعطاه الله الهبات والأعطيات، من صبر وحلم وحسن خلق، وأكثر من ذلك كله، من هداية، أول طلب في القرآن وأعظمه: " اهدنا الصراط المستقيم"، هو أيضا دعاء، بل ما وصل الأنبياء إلى ما وصلوا إليه إلا بالدعاء: " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا". فبالدعاء، وصل عباد الرحمان إلى ما وصلوا إليه، ولولا الدعاء ، لما عبأ بهم الله ولما اكترث لهم. فاللهم وفقنا للدعاء، واهدنا للدعاء، ولا تجعلنا نمل الدعاء، ولا تجعلنا نمل من الدعاء، اللهم ارفع مقامنا عندك، واجعلنا من عبادك عباد الرحمان. آمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج السلام عليكم و رحمة الله و بركاته إخوتي الكرام: الإمامة في الدين: هي المنزلة التي يتطلع إليها عباد الرحمان و لا ينالها إلا من أتم كلمات الله كما ذكر الله عز و جل مخبرا عن نبيه و خليله "إبراهيم" عليه و على نبينا أفضل الصلوات و التسليم: "و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن, قال إني جاعلك للناس إماما" و لا ينبغي أن يخلط المرء بين مسألة الإمامة في الدين و ما ابتليت به الأمة اليوم, من طلب للقيادة و الزعامة بدعوى نصرة الدين -زعمنا- و ليس الأمر إلا شهوة خفية في تقدم الجماهير و حب الثناء و محمدة الناس, أما الإمامة فمن شروط الوصول إليها التجرد التام لله تعالى و الإخلاص له, و قد كان أئمة الإسلام و أولياء الله يحبون الخمول و يتحاشون الظهور, فلما علم الله صدقهم كافئهم بأن أعلى ذكرهم و جعلهم أئمة للناس و مصابيح يهتدى بها و لو أنهم أضمروا حب الشهرة لكافئهم الله بعكس مقصودهم. و الكلمات في جاءت في الآية السابقة: تعبير عن الإبتلاءات و الإختبارات التي يتعرض لها العبد في سلوكه إلى الله: ""أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ" و من جميل ما قرأت: أن رجلا سأل الإمام الشافعي رحمه الله: أيُّما أفضل للرجل: أن يمكن أوأن يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يبتلى. و الناس في تلقيهم لهذه الكلمات و خضوعهم لهذه الإختبارات مراتب, يبتلون على قدر دينهم و إيمانهم: فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة" و ليس معنى هذا أن يطلب الإنسان الإبتلاء, بل يجب عليه أن يطلب السلامة و لكن إذا ابتلي فعليه أن يصبر كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا تتمنوا لقاء العدو, و اسألوا الله العافية, فإذا لقيتموهم فاصبروا" الحديث و الله أعلم "ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" آمين سبحانك اللهم و بحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك و نتوب إليك
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج بسم الله الرحمن الرحيم. جزاك الله خيرا أخي عماد على هذه التوضيحات حول مفهوم الابتلاء. و قد أعجبتني هذا المقطع من كلام الأستاذ رحمه الله : "فليست فصول مدرسة "عباد الرحمن" بالأمر الذي يصبر عليه ضعفاء العزائم، ممن لم يقطع بَعْدُ صلتَه بأهل التراب، وبشهوات التراب، ورغائب التراب! لا قدرة لجناح الروح على الطيران العالي؛ مَا عَلِقَتْ بريشه أطَيْانُ الذنوب ووَحَلُ الخطايا والآثام!" إذ إن سورة الفرقان كلها ـ كما تدارسنا ذلك ـ تصنع بجلاء صورة مثالية يجدرُ بكل مسلم أن ينشدها : صورة الإنسان الروحاني. أي نموذج الإنسان الذي لا ينظر بعين قلبه إلى الدنيا قط، قد طلقها طلاقا لا رجعة فيه. و جاءت آيات عباد الرحمن لتزيد الأمر جلاء : فهؤلاء العباد يتركون النهي، بل "ولا يلوثون به حتى أحلامهم" كما قال أحد الصالحين. فكيف وصلوا إلى هذه المنازل؟ أليسوا بشرا مثلنا، يشتهون ما نشتهي؟! هنا يأتي جواب القرآن صادعا : إنه الصبر. و العجيب أن مما تحدث عنه الربانيون من قبل، أن الإنسان لا يصل إلى الكمال حتى تجتمع له البصيرة و الصبر معا. و هو ما تشير إليه الآيات الأخرى : "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ". إذ اليقين بالآيات هو عين الإبصار و جلاءُ البصيرة. فكانت سورة الفرقان تبني في كيان المكابِد لها المعنيين معا : البصيرة، من خلال زرع جهاز إنذاري مبكر في قلب العبد ـ و هو الفرقان ـ يبصر من خلاله الحق و إن خفيت معالمه، و الباطل و إن اتزر بإزار الحق. و تدبر أخي السورة كلها تجدها على هذا النحو إن كنت من المبصرين. ثم بعد ذلك اختتمت بمعالم منهجية حول الصبر. فكانت النتيجة : أن من تخلق بسورة الفرقان كاملة ـ بصيرة و صبرا، أو قُلْ علما و عملا ـ كان من عباد الرحمن، و هم "عباد الرحمن الكُمل" كما قال علماؤنا. و الله أعلم!
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج [font="]السلام عليكم و رحمة الله و بركاته[/font] [font="] جزاك الله أخي "سعد", على ما أوردته. نعم إن "عباد الرحمان" كما وصفهم الله عز و جل هم قوم طلقوا الدنيا ثلاثا, و كما قال سيدنا "علي ابن أبي طالب" رضي الله عنه: "يا دنيا غري غيري, قد طلقتك ثلاثا", و لكن هذا لا يعني أنهم انقطعوا عن طيباتها و لزموا المساجد و انقطعوا عن الناس و اعتزلوهم, فتلك رهبانية مذمومة ذمها الله عز و جل في كتابه و رسوله صلى الله عليه و سلم:[/font] [font="] "و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم, إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها" سورة الحديد[/font] [font="] "لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كما هو في الصحيحين[/font] [font="] إن دعاء عباد الرحمان: "ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين و اجعلنا للمتقين إماما" يساهم في إيزال اللبس عندنا في مفهوم 'الزهد" الذي قد يُفهم منه اعتزال الدنيا و الإنقطاع عنها.فالتعامل مع الدنيا يكون كما وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب استظل في ظل شجرة ثم راح وتركها", فهل يعقل أن يسافر المرء سفرا طويلا دون استراحة (فهذا مثل من انقطع عن الدنيا و الطيبات التي أحلها الله), و هل يعقل أن يسافر المرء فإذا صادف شجرة استظل بها و مكث تحتها ناسيا سفره حتى نفذ زاده (فهذا مثل من صارت الدنيا همه), و لكن الرجل اللبيب الفطن هو الذي انتبه إلى قوله صلى الله عليه و سلم: "إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد الا غلبه ، فسددوا ،وقاربوا ، وأبشروا ،و استعينوا بالغدوة والروحة ، وشىء من الدجلة". و لشيخنا رحمه الله في سلسلة منازل الإيمان "منزلة الزهد" بأجزائها الثلاث يوضح فيها مفهوم الزهد الذي زلت فيه أقدام و ضلت فيه أفهام, و إنما الموفق من وفقه الله.[/font] [font="] و أعود للحديث عن "الصبر", و الحديث عنه حديث ذو شجون لكنني أربطه هنا بما أوردته في الفقرة السابقة و لكن في سياق آخر و هو التعامل مع الناس (وهو الأمر الذي وجدناه في غير ما موضع عند مدارستنا سورة الفرقان), فعباد الرحمان لا ينقطعون عن الخلق و لا ينفرون منهم بل يتعاملون معهم كما أمرنا الله عز و جل و يصبرون على أذاهم و لكن لا يجارونهم في ما يغضب الله و رسوله و لا يجابهون الجهل بمثله بل يضربون عرض الحائط قول الشاعر:[/font] [font="] لا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا[/font] [font="] و يقفون عند قوله تعالى في سورة الفرقان:[/font] [font="] "و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"[/font] [font="] "و إذا مروا باللغو مروا كراما"[/font] [font="]و قوله سبحانه و تعالى في سورة النساء: [/font]"و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره, إنكم إذا مثلهم, إن الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم جميعا" [font="] و لرسول الله صلى اله عليه و سلم حديث قاطع على أفضلية معاشرة الخلق و الصبر على أذاهم:[/font] [font="] "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهِمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهِمْ"[/font] [font="] و مخالطة الناس و الصبر على أذاهم يمكن القول بأنه بمثابة التلقيح الذي يقوي مناعة إيمان الإنسان و يرفع درجته كلما صبر على أذاهم و كبح جماح هواه و شهواته في اتباعهم إذا أساءوا, و إذا تأملنا قصة "برصيص" عابد بني إسرائيل أدركنا هذا الأمر.[/font] و سورة الفرقان التي تدارسناها تحفل بالمواضع التي تعرض فيها رسول الله عز وجل لأذى الناس (وهو الأمر نفسه الذي ينتظر كل الدعاة إلى الله) فما زاده فعلهم إلا حلما (صلى الله عليه و سلم), و كذا ما جاء في صفات عباد الرحمان (اللهم اجعلنا منهم). آمين. [font="] و الله أعلم[/font] [font="] سبحانك اللهم و بحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك و نتوب إليك[/font]
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج [font="]3- الهدى المنهاجي:[/font] [font="]وينقسم إلى خمس رسالات هي كالتالي:[/font] [font="]- الرسالة الأولى:[/font] [font="]في ضرورة مقاطعة مجالس المنكر ونواديه، وسائر القنوات الإعلامية التي تصنع الزور وتنتج اللغو، وتُسَوِّقُ الباطل! واستصحاب قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً!) خُلُقاً راسخاً في النفس على كل حال! فهو من أهم ما يعصم المؤمن من الوقوع الساهي في شباك الإعلام المضلل، ومن الانجذاب إلى صوره الكاذبة، وتخييلاته السحرية! فالنجاح في إتمام كلمات هذا الابتلاء القرآني يجعل عبد الله على يقظة روحية مستمرة، ووعي نقدي دائم. ثم إن الفشل فيه إنما هو فشل في الانتساب إلى مدرسة "عباد الرحمن"، الذين اشتغلوا بالله، وانصرفوا عما سواه، فلم يكونوا إلا به وله![/font] [font="]- الرسالة الثانية:[/font] [font="]في أن التذكر الدائم بالقرآن تلاوةً ومدارسةً، لهو من أهم الوسائل الأساسية؛ لدحض ما خلفته وسائل الإعلام في النفس من وساوس وشبهات، وعلاج ما تركته مخالبها على جدران القلب من أمراض وجراحات! ذلك أن كلمات الإعلام السحرية وصوره الشيطانية، ورسائله الفيروسية، ولو مما وقع بالعين أو بالسمع صدفةً، أو اتفاقاً، أو عبوراً، هو وَسَخٌ يقع بالنفس الإنسانية! فإذا لم يتداركه المؤمن بالغسل والتطهير خُشِيَ عليه أن تتوالد جراثيمُه في القلب! ثم تتناسل خَطْرَةً، فَفِكْرَةً، فَسُلُوكاً منحرفا وسقوطا! والعياذ بالله![/font] [font="]والقرآن بما جعل الله فيه من أسرار وأذكار - مما بينا قبل – كفيلٌ وحده بتحصيل الذكر للمؤمن، كلما تلاه بحقه الفرقاني أو تدارسه بمنهاجه الرحماني. فلا يمكن إلا أن يخر على مواقع الذكرى بكل جوارحه ومواجده، خاشعا لله، تائبا له. وإن ذلك لمن أكبر بركات القرآن الكريم. فلا تغبن نفسك بإهماله يا صاح! وأنت تعيش زمن الفتن بشتى ضروبها! وإنما فرقانية القرآن هي خلاصك الوحيد من لهيبها![/font] [font="]- الرسالة الثالثة:[/font] [font="]في الاشتغال الدعوي ببناء الأسرة المسلمة وحفظ هويتها، وإعطائها الأولوية في تجديد الدين على المستوى الاجتماعي. ومعلوم ما يبذله الغرب اليوم من مجهودات جبارة في سبيل تحريف مسار الأسرة المسلمة، وتدمير خصوصياتها الحضارية، وانتمائها الإسلامي، بما يحعلها قابلة للابتلاع العولمي الاستعماري المتوحش، والمدمر للبلاد والعباد![/font] [font="]فالعمل الأسري اليوم على مستوى الدعوة والإصلاح يعتبر من أهم المواقع الجهادية بمفاهيم القرآن وكلماته! فذلك حصن الأمة الأعظم اليوم لو ينهار في موطن ما - لا قدر الله – فلن تبقى للمسلمين في ذلك الموطن بقية! فما أعظم أن يشتغل الدعاة والعاملون في الصف الإسلامي ببناء مجالس القرآن الأسرية! وإن في ذلك ما فيه من الضمان والأمان للأسرة، والتجديد لنسيجها العمراني على موازين القرآن؛ بما يحفظها محميةً محصنةً، ويجعلها أقوى من أن تدمرها وسائل الإعلام؛ أو تخرقها قيم الغرب، وأفكاره المدمرة للنسيج الاجتماعي ولسائر القيم والأخلاق! [/font] [font="]- الرسالة الرابعة:[/font] [font="]في ضرورة تكثير نماذج القيادات العلمية الصادقة، من أهل "الإمامة الدعوية"، واختيار معادنها الرفيعة، وبثها في الأمة. ذلك أن من أهم الوسائل المنهاجية لتجديد الدين في البلاد، تخريج أعداد وفيرة من "أئمة التقوى". فهم وُرَّاثُ الأنبياء، وهم المعلِّمُون الربانيون، وهم الأقوياء الأمناء. وإن الواحد منهم بمائة ألف من غيرهم! فالرهان على إنتاج هذه العبقريات الإيمانية يعتبر من صلب المنهاج القرآني، في الدعوة إلى الله وتجديد الدين في الأمة! وإن عدم الانتباه إلى ذلك أو إهماله لهو من أهم أسباب الفشل والانحراف عن المنهاج الفطري السيلم، ديناً ودعوةً! [/font] [font="]- الرسالة الخامسة:[/font] [font="]في أن الاشتغال بأداء حقوق الله ورعايتها عبادةً ودعوةً، هو صمام الأمان للنجاة في الدنيا والآخرة. وإن سلامة السير الإيماني والدعوي رهينة برضى الله - عز وجل - على السائرين! وتلك هي خلاصة الخلاصة، من كل ابتلاءات هذه السورة، مقدماتٍ ونتائجَ! ولا تنس كلمة الله الخاتمة: [font="]([/font][font="]قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ![/font][font="])[/font][font="] وتَلَقَّ فرقانَها كاملا؛ بمداومة مشاهدة أحوال الجهة الأخرى: [/font][font="]([/font][font="]فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً![/font][font="])[/font][font="] ففي تجديد التلقي تجديدٌ لعزائم الروح! [/font][/font]
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج 4- مسلك التخلق: ومسلك التخلق بثمار هذا المجلس الكريم راجع إلى الاستعانة بالتزام عملين اثنين: - الأول: عَدَمُ الْمُشَاحَّةِ على حدود التقوى. وذلك بالتحرز من الاحتكاك بأطراف المباحات مما يلي مناطق الحرام، وإن لم يكن منها. وهو معنى "الورع". والورع مقام إيماني عظيم، معناه: ترك ما لا بأس به خشيةَ الوقوع فيما به بأس! وهو أصل الاحتياط للدين والاستبراء له، الذي أوصى به سيد المرسلين، عليه الصلاة والسلام. فقد ورد في الحديث الصحيح عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: - وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ – (إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ! وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ! فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ! كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ! أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ! أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ! وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ! أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ!)([1]) وذلك هو بيان معنى الورع. وهو خير الدين، على ما ورد في السنة الصحيحة، من قوله صلى الله عليه وسلم: (وَخَيْرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ!)([2]) فهذا الاحتياط من أهم المسالك العملية، التي تخرج المؤمن من فتنة الجدل العقيم في التزام التروك، ومجانبة مواردها القربية منها؛ ما يؤهله للدخول بيسر في التنفيذ العملي لدروس "عباد الرحمن" من ترك اللغو والعبث. - الثاني: التزام أوراد الدعاء الخالص أبداً، والتوجه الصادق به إلى الله، في ختم كل عمل؛ لما في ذلك من التبرء التام من الحول والقوة، ولما فيه من تحقيق الافتقار الكامل إلى الله، ما يجعل المؤمن ثابتا على مقام التوحيد الخالص! وما يستجلب ولاية الله له، ومباركته تعالى لمسلكه وعمله. وكفى بذلك ضمانا للفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. خاتمة في التقويم العام وأخيرا يا صاح! هذه هي سورة "الفرقان" الآن بين يديك.. فإمَّا أنْ تكونَ قد تَلَقَّيْتَ كلماتِها تلاوةً ومدارسةً وتزكيةً، ونَزَّلْتَ رسالاتِها على نفسك، رسالةً رسالةً؛ فإنك إذن قد تَلَقَّيْتَ من الله – إن شاء الله – فُرْقَاناً! فاللهُ - جلَّ جلالُه - لا يُخلف وعده أبداً! وإن الرَّبَّ لَشَكُور! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً!)(الأنفال: 29) وفرقانية هذه السورة العظيمة "إمامةٌ" على مستوى خِرِّيجِي مدرسة عباد الرحمن! إمَامَةٌ تجعل بين ماضيك وبين حاضرك فرقانا! وتجعل بينك وبين الكفر والفسوق والعصيان فرقانا! وتجعل بينك وبين الظلمات فرقانا! وتجعل بينك وبين مَوَاطِنِ الزور واللغو والعبث فرقانا! وتجعل بينك وبين العجز والكسل فرقانا! إن فرقانية هذه السورة تجعل منك عبداً من "عباد الرحمن" ينطلق بكلمات الله في الآفاق، ينشر النور، ويؤسس للقرآن مجالسَ ملائكيةَ الحضور، ويجاهد بالقرآن أشباحَ الظلام! ومفاهيمَ الظلام، وأخلاقَ الظلام! سَنَدُهُ في ذلك ولايةُ الله، وزاده اليقين في نصرته جل علاه، وغايته الوصول إلى جمال رضاه! فإن لم تجد شيئا من ذلك يا صاح، فقطعاً قد غششتَ نفسَك في مرحلة من مراحل الطريق! فأَعِدِ الدَّرْسَ من البداية! ولا يأس من رحمة الله! وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيراً. [FONT="][1][/FONT][FONT="] متفق عليه.[/FONT] [FONT="][2][/FONT][FONT="] أخرجه [/FONT][FONT="]البزار، والطبراني في الأوسط، والحاكم عن حذيفة، كما أخرجه الحاكم أيضا عن سعد. وصححه الألباني. حديث رقم : 4214 في صحيح الجامع. [/FONT]
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج تابعونا في رمضان المبارك مع سورة يــــ'ـــــس إن شاء الله
رد: المجلس الخامس عشر من سورة الفرقان: في معارج التخرج السلام عليكم استسمحكم في الحديث مجدداً عن مدرسة عباد الرحمان ، وإن الشرف كل الشرف ،كما تعلمون، في الإنتساب إلى فصولها ، وتلك غاية تفنى فيها الأعمار ! لاحظوا معي أيها الإخوة أن الله عز وجل يتحدث عنهم ، ويقر سبحانه لهم سلامة حواسهم ! وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً إذ كيف تكون معطلة وهي تلتقط ايات الله وتذكر بها ؟! إن الإنتساب إلى مدرسة عباد الرحمان إذاً بابها هو الإقبال على القرآن الكريم بحواس سليمة ، وبقلب مستعد للتلقي ! وهذا عين ما يجب أن نشتغل عليه إذا اردنا الإلتحاق بفصول هذه المدرسة