المجلس الرابع عشر:في مقام الانتساب إلى مدرسة عباد الرحمن في الاقتصاد المادي والمعنوي

الموضوع في 'سورة الفرقان' بواسطة المدير العام, بتاريخ ‏19 مايو 2010.

  1. المدير العام

    المدير العام الإدارة طاقم الإدارة


    المجلس الرابع عشر

    في مقام الانتساب إلى مدرسة "عباد الرحمن"
    الفصل الثاني: في الاقتصاد المادي والمعنوي


    1- كلمات الابتلاء:

    وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71)


    2- البيان العام:

    هذه إحدى ثمرات دروس التهجد، ومقامات الخوف والخشية. من نجح هناك أمكن أن يدخل ابتلاءات هذا المقام. فمن اكتحل في ظلام الليل بدموع القرآن أبصر معالم الطريق وحقائقها بالنهار، إبصارا يؤهله للثبات على صراطها المستقيم. ورأى أشباح الشهوات على حقيقتها وبشاعتها، فلا تسحر عينيه كما تسحر أهلَ الغفلة؛ إذ يرون فيها من الحسن والبهاء ما لم يجعله الله فيها! بل يراها كما هي في قبحها وبشاعتها؛ فينفر منه ويستقذرها!

    إنها ثمراتٌ عملية تمنع صاحبها من سلوك طريق المسرفين في المعيشة وفي الذنوب! فعباد الرحمن بما وَقَرَ في قلوبهم من معان ربانية، يكونون فقهاء في طبيعة الدنيا، وأنها ليست للاستغراق في الشهوات ولو كانت من المباحات، بقدر ما هي للحرث الأخروي! إنهم أهل اقتصاد عام في المال وفي الأعمال! بالمعنى الشمولي الإسلامي لكلمة "اقتصاد"، الراجعة إلى معنى التوسط والاعتدال.

    والمال في الإسلام - على الإجمال - هو ثاني شيء يُعبد به الله بعد الصلاة! ولذلك كثيرا ما تعطف الزكاة على الصلاة في القرآن الكريم عند تحديد شروط التوبة والصلاح، أو تحديد علامة الدخول الجاد في الإسلام. كما في قوله تعالى عن المشركين المحارِبين: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(التوبة: 11).

    والعبادة المالية أنى كانت، سواء في مجال الزكاة أو مجال الصدقة بالمعنى العام، أو في مجال التدبير والنفقة على النفس والعيال، والمشاريع الاقتصادية، مرتبط أشد الارتباط بأصل التوحيد في الإسلام! حيث هنالك يقع ابتلاء المؤمن في كيفية التصرف في ماله، هل هو بشعور التملك الحقيقي الأناني؟ أي على وزان قول قارون لما قيل له: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ! قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي!)(القصص: 77-78) أم أنه يتصرف بشعور الابتلاء التعبدي الذي تترجمه قاعدة الاقتصاد الإسلامي القاضية بأن (المال مال الله والبشر مستخلفون فيه!)؟

    فالذي صلى حقا وقام وتهجد إنما هو الذي نال شرف المعرفة بالله توحيدا له وإخلاصا! فوجد أن المالك إنما هو الله! وإنما الإنسان في ماله - الذي ابتلي به - عَبْدٌ لله! كما هو عبد له في ركوعه وسجوده! بلا تناقض ولا اختلاف، شعور واحد يصحبه بالليل والنهار! وذلك هو الدين الخالص والتوحيد الكامل! ومن هنا فاض هذا السلوك الرباني العجيب على أهل الله هؤلاء، من عباد الرحمن! فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: (إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقْتِرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)‏! أي: ليسوابمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم وعلى أهل الحقوق عليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل هم وسط في كل ذلك. وخير الأمور أوسطها. كما قال تعالى‏ في سورة الإسراء:‏ ‏(وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً! إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً‏)(الإسراء: 29-30)‏‏الآية‏.‏

    والضابط الاقتصادي التعبدي في الإسلام لذلك الميزان الرباني، إنما هو الإنفاق على قدر الحاجة! "الحاجة" بمعناها الشرعي، لا بما تخيله وسائل الإعلام اليوم، القائمة على تكريس ثقافة الاستهلاك المدمر للبلاد والعباد! وقد صح في السنة النبوية الشريفة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم اجعل رزق آل محمد قُوتاً!)([1]) والقوت: هو الرزق الذي يسد الحاجة ولا يزيد! فكذلك كان وسط عيشه - صلى الله عليه وسلم - وسيرته في أهله وأصحابه. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: (قد أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، ورُزِقَ كَفَافاً، وقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ!)([2])
    ودون هذا ما دونه من مكابدات الليل وسبحات النهار! فمن لم يعرف ذلك ولم يشاهده، فلا سبيل له للدخول في ابتلاءات هذا الفصل الرفيع! وإنما الموفق من وفقه الله!

    وبذلك كانوا منـزهين عن إتيان أمهات الكبائر في الإسلام، آمنين من الانجذاب إلى لهيبها وفتنها. وعلى رأسها: الشرك بالله بدعاء غيره، وقتل النفس بغير حق، والزنى والفواحش! فقال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً!)

    وقد استشكل بعض المفسرين أن يُسْنَدَ تَرْكُ ذلك إلى عباد الرحمن، وقد وُصِفُوا بما وُصِفُوا به من المقامات الإيمانية العالية؛ باعتبار أنهم منـزهون عن هذه الكبائر، فليس مثلهم من يمدح بتركها! فأوَّلُوا الآية وأخرجوها عن ظاهرها إلى معان إشارية!([3]) والحقيقة أن الآية هي على ظاهرها – كما هو مذهب جمهور المفسرين - ولا إشكال فيها البتة. ذلك أن الله جل جلاله يضع بنفي هذه القبائح عن "عباد الرحمن" فاصلاً بينهم وبين أهل الكفر والشرك! وذلك ببيان بُعْدِ المسافة وعمق الاختلاف! من حيث إن المؤمنين متحكمون في نزواتهم الشهوانية والغضبية، منقادون لله فيها انقياداً، خالصون له تعالى في كل ذلك، فلا خيانة ولا إشراك! لا تستفزهم النداءات الشيطانية من هنا وهناك، ولا يلتفتون لغير الله! على عكس أحوال المشركين والكفار. ومن هنا فقد أخرج الإمام الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية: (نزلت في أهل الشرك!)([4]) في سياق مدح عباد الرحمن. وإنما ذلك كان لبيان المقامات العالية لأهل الإيمان! من باب قولهم: "وبضدها تتميز الأشياء!"

    وأما الحكمة التربوية من كل ذلك فهي: بيان أن المسلم مهما كان مقامه الإيماني مُعَرَّضٌ للفتنة ببشريته! فلا ينبغي له أن يغتر بالله، فيهلكه العُجب والمن على الله! إذْ لا عصمة لأحد بعد رسول الله! ثم - وهذا هو الخصوص المنسوب إلى عباد الرحمن ههنا – إن الحفظ من هذه الكبائر وأضرابها إنما هو نعمة من أكبر النعم التي لا تكون إلا بالله! فتستوجب شكرا لله لا حد له! وحقا له على عباده الصالحين لا نهاية له! وعبادُ الرحمن إذْ يشاهدون ذلك، يشاهدون ما أكرمهم الله به من العصمة والأمان، من هذه الفتن جميعها؛ فيزيدهم خشوعا نَدِيّاً، وبكاءً سَخِيّاً، يروي جمال لياليهم الخضراء!

    فآلت الآية إلى أنها ضرب من التأمين الرحماني لعباد الرحمن، من أن يقعوا فيما يقع فيه غيرهم من المشركين أو من عصاة المسلمين! وكفى بذلك تكريما لهم وتشريفا! وهو في الحقيقة من أجمل ما وُصفوا به في هذا المقام العظيم! إذ جاء سيرهم إلى الله متوازنا بين مقامي التحلي والتخلي. والعظمةُ بالله إنما تكون لمن تعرض للفتنة فثبتَ وأمَّنَهُ الله! لا لمن لم يعرفها قط، ولم يُبْتَلَ بها على سبيل العرض والإغراء! والأول هو مقام عباد الرحمن، فانظر أي جمال وجلال في هذا الوصف الرباني العظيم لمدرستهم! وإن في ذلك لرسالات من "الهدى المنهاجي" عظيمة، نذكرها بعد قليل في محالها بحول الله.


    يتبع إن شاء الله



     
  2. المدير العام

    المدير العام الإدارة طاقم الإدارة

    رد: المجلس الرابع عشر:في مقام الانتساب إلى مدرسة عباد الرحمن في الاقتصاد المادي والمع

    ثم وجَّه سبحانه الوعيد الشديد للمشركين ولأهل المعاصي، من المتمردين على الرحمن! المصرين على جرائمهم إصراراً، بلا توبة ولا أوبة ولا استغفار! فوصف مشهد عذابهم يوم القيامة؛ بما يملأ القلب هولا وفزعا! وبما يُلَمِّعُ ويُعلي مشهد تمتع عباد الرحمن بما سيأتي وصفه من جمال "الغُرْفَةِ" العالية في الجِنَان!

    قال تعالى‏:‏ ‏(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً!)‏قال عِكْرِمَةُ في معنى " ‏أثَام ": هي‏ أودية في جهنم يُعَذَّبُ فيها الزناة! وقال قَتَادَةُ: ‏"‏يَلْقَ أثَاماً‏"‏‏:‏ نَكَالاً! وقال السُّدِّي:‏ جَزَاءً.([5]) وكلها أقوال في جميع الأحوال تؤول إلى معنى واحد، لا يخرج عن كونه جزاءً رهيباً من العذاب، من مثل ما فعلوا في الدنيا من الاستجابة لشهوات الحرام والفساد في الأرض، من شرك وقتل وزنى. لكنه جزاء أخروي على وزان ما جعل الله في جهنم والعياذ بالله! ولذلك قال تعالى: ‏(يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً!)‏ أي يُغَلَّظ عليه ‏(‏وَيَخْلُدْ فيهِ مُهَاناً‏)‏، أي: حقيراً ذليلاً في عذابٍ سَرْمَدِيٍّ لا نهاية له!

    ويأبى الله خلال هذا الترهيب إلا أن يتجلى على عباده برحمته! فيفتح باب التوبة للناس جميعا، كافرهم ومسلمهم! ممن سقط في وحل المعاصي والذنوب، من مثل هذه الكبائر المذكورة وغيرها. فمقام "عباد الرحمن" ومدرستهم مفتوحة في وجه كل من رغب إلى الله بالتوبة التامة النصوح! وجاء إلى مولاه يحمل مواجيد الندم ومشاعر الألم! يرجو رحمته وغفرانه! فله الحمد من رب رحيم! وله الحمد من مَلِكٍ كريم!
    فمدرسة عباد الرحمن ليست من المدارس الدنيوية التي يطرد منه الفاشلون طرداً!.. كلا! كلا! فالأمل في الولوج إليها والانتساب لها مفتوح في وجه جميع المؤهلات إلى يوم القيامة، تشجيعا على الاشتغال الدائم بمحاولة التحقق من شروط الالتحاق أبداً. إننا لم ننقض ما ذكرناه قبل من كلام في خصوصية مدرسة عباد الرحمن، نعم هي مدرسة عالية عالية! لكن تحقيق التأهل لها ممكن في وجه كل من وفقه الله، فالمقاييس المادية الحسية ههنا تفشل في تقدير الإمكانات. المقياس الروحي وحده يتحكم! ففي مجال الدين والتزكية الروحية لا يكون الجهد العملي وحده المؤهل للنجاح، بل هناك التسديد الإلهي والتوفيق الرباني، المبني على ما يستبطنه المؤمن من إخلاص القصد في العمل، وكمال الصدق في الطلب! هذا هذا..! إنه المؤهِّلُ الحاسم في ولوج كل مقامات الدين!

    فمن كان على ذلك الوزان من الإخلاص والمحبة والشوق – مهما بدا عليه من العجز والضعف – وقد تحقق بالمحبة الكاملة والإخلاص التام؛ كان الله له معينا؛ فأنجز بعد ذلك ما تتعجب منه العقول من جلائل الخطوات والأعمال! إن النجاحات في الدين لها صلة كبرى بموازين الغيب، أكثر مما لها من ارتباط بمقاييس الشهادة! فلا تنس هذا! ولك أن تتأمل هذا الحديث النبوي الشريف، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ! قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ! سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ! وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا!)([6])

    ومن هذا الباب الرحماني العظيم تجلت توبة الله عَرْضاً كريماً على عباده، كل عباده! قال سبحانه:‏ ‏(إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً!)‏

    أي إلا من تاب الآن في الدنيا دار الابتلاء، وأقلع إقلاعا عن هذه الصفاتالقبيحة، بالشروط المذكورة في الآية،‏ فإن الله يتوب عليه‏.‏ ويجازيه بما هو تعالى أهله من جمال الكرم والجود! وهو قوله تعالى‏:‏ ‏(فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ! وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)‏‏.‏ وقد ذهب المفسرون في معنى ذلك مذهبين‏:‏ أحدهماأنهم كانوا قبلتوبتهم على فعل السيئات فحولهم الله إلى فعل الحسنات، وأبدلهم بالعمل السيء عملا صالحا. أي أنه تعالى أبدلهمبالشرك إخلاصاً، وبالكفر إسلاماً، وبالفجور إحصاناً.. إلخ.

    والمذهب الثاني: أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات! وقد ثبتت السنة بمعنى ذلك، لكن في سياق آخر قريب.‏فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا: رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا! فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا، وَكَذَا كَذَا وَكَذَا! وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا! فَيَقُولُ: نَعَمْ! لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ! وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ! فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً! فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لاَ أَرَاهَا هَا هُنَا؟! [قال أبو ذر:] فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ!)([7])‏.‏ وهذا أمر مرتبط برحمة الله وكرمه، ولا علاقة لها بحتمية حسابية! ولذلك فليس ببعيد عن رحمة الله الواسعة، أن يعامل من يشاء من عباده التائبين في الدنيا، بما يجعل سيئاتهم حسنات بهذا المعنى؛ فلا يدخلون النار أبداً، ولو لحين من الدهر! نجاني الله وإياك من عذابه كل عذابه! وأدخلنا في رحمته برحمته!

    [FONT=&quot] [/FONT]
    [FONT=&quot] [/FONT]
    يتبع إن شاء الله

    [FONT=&quot]
    [/FONT]
     
  3. المدير العام

    المدير العام الإدارة طاقم الإدارة

    رد: المجلس الرابع عشر:في مقام الانتساب إلى مدرسة عباد الرحمن في الاقتصاد المادي والمع

    [FONT=&quot] [/FONT]
    [FONT=&quot][/FONT][FONT=&quot][/FONT] [FONT=&quot]إلا أن التوبة المذكورة ههنا لها شروطها، هي: نفس التوبة أولا، ثم الإيمان، ثم الدخول في العمل الصالح تَوّاً! فالتوبة هي: ذلك القرار النفسي المتخذ على مستوى العزيمة والإرادة الذاتية؛ بقصد الانتقال من حال السوء إلى حال الصلاح، قرارا واعيا عميقا، يصحبه الندم على الماضي! فهذه خطوة أولى ضرورية. والخطوة الثانية: أن يكون ذلك القرار قد وقع في النفس بدافع الإيمان بالله واليوم الآخر! لا بدافع أرضي أو مصلحي، أو عقلاني مجرد من كل معاني الدين! فكثير من الناس يقلع عن عادات سيئة لكن ليس تعبدا، وإنما استجابة لقوانين العادة والطبيعة؛ حفاظا على سلامتهم الصحية، أو مكانتهم الاجتماعية، أو نحو هذا وذاك! وكل ذلك باطل في ميزان الله! إنما التوبة عبادةٌ محضة، إذا خلت من عمقها الإيماني بطلت! ولذلك عطف شرط الإيمان ههنا على شرط التوبة نفسها؛ على سبيل البيان والتعريف! وسواء كان مفهوم "الإيمان" هنا متعلقا بإيمان الدخول في الإسلام ابتداءً، أو كان متعلقا بالخروج من المعصية بالنسبة لعصاة المسلمين، بمعنى تجديد الإيمان، فهو في ضرورة استحضاره سواء! ولذلك - قال صلى الله عليه وسلم - في نص واضح في هذا: ([FONT=&quot]لاَ يَزْنِي الزَّانِي حَينَ يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ! ولاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حينَ يَسْرِقُ وهو مُؤْمِنٌ! ولاَ يَشْرَبُ الخمرَ حينَ يَشْرَبُهَا وهو مُؤْمِنٌ! والتوبةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ[/FONT][FONT=&quot]!)([FONT=&quot][8][/FONT]). فوجب لها تجديد الإيمان! وليس معناه أنه قد كفر بهذه الذنوب مطلقا، ولكن ضَعُفَ إيمانُه حتى لم يعد له من أثر على سلوكه! وأشبه أحوال الكفار في تمرده على الله! فلا بد له من عمران إيماني جديد، ينقله إلى أحوال الإيمان الحق![/FONT][/FONT]
    [FONT=&quot]وأما الخطوة الثالثة المذكورة نصا ههنا في الآيات موضوع مجلسنا هذا، فهي العمل الصالح. وهو بمواصفات معينة أيضا! قال تعالى: ([FONT=&quot]وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً[/FONT][FONT=&quot]!) فقد جعل له مفعولا مطلقا؛ للدلالة على عمقه واستمراره واتصاله! وانقطاعه التام الكامل المطلق عن ماضيه، وانفصاله الكلي عنه! يستقذر الكفر والشرك والمعاصي بشتى أنواعها استقذاراً! ويتلذذ بالطاعة والعبادة تلذذا! فهو الآن إنسان آخر تماماً! إنه - بميزان الله - إنسان صالح ظاهرا وباطنا! فاستحق بذلك الدخول في رحمة الله الواسعة الفياضة، وفي كرمه وجوده العظيم، بما وصفنا في هذا المقام من خصوص: (إنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً!) وكيف لا؟ وقد كان من العبد ما كان من الموبقات والذنوب، فغفرها الله له جميعا، جميعا! ثم، رفعه إلى أعلى مقام! فأي جود هذا وأي كرم؟ وأي رحمة وأي غفران؟ إنه الله رب العالمين، الرحمن الرحيم! فسبحانه وبحمده من ملك غفور رحيم![/FONT][/FONT]
    [FONT=&quot]وإن هذا لبابٌ عظيم! باب من أوسع أبواب الرحمة الإلهية! ولذلك فالشيطان يقف على طريقه، مترصدا بالتوابين والمقبلين! يلقي في خواطرهم وساوس التثبيط والتعجيز! إما تأجيلا للتوبة إلى حين، وإما تعجيزا عنها وتيئيسا من رحمة الله رب العالمين! ولذلك أعقب اللهُ سبحانه ذلك الوعدَ الكريم السابق، بآية أخرى توكيدية عجيبة حق عجيبة! تعتبر أصلا من أصول التربية الإيمانية في الإسلام، وقاعدة من أهم قواعدها الكبرى، وألا وهي المبادرة إلى التوبة قبل تدخل الشيطان! وجَعْلِ قرارها النفسي مرتبطا بإنجازها العملي، دون أدنى أي فارق زمني بين القرار والتطبيق! بل بالمسارعة إلى الدخول في حصن العمل والتنفيذ والتحول الكلي حالا! فالزمن ليس في صالح الإنسان على كل حال، وفي هذه الحال على الخصوص! وهو ما يزال في برزخ بين الكفر والإيمان، أو مترددا بين الهدَى والضلال! وما تزال روائح الشر ونتونة المنكر تملأ قلبه! والقضية قضية مصير كوني أخروي! ولا فرصة لعيش اللحظة أي لحظة إلا مرة واحدة! فما يدريه أن تضيع منه حال اليقظة تلك، إلى غفلة لاحقة يغط معها في نوم عميق!؟ لا يستيقظ منه إلا على شفير القبر!؟[/FONT]
    [FONT=&quot]ذلك هو قوله تعالى بَعْدُ مباشرة: [FONT=&quot](وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً![/FONT][FONT=&quot]) أي من قرر ذلك نيةً وعملا؛ فإنه ينطلق إليه بقوة وبسرعة! ويبادر الشيطانَ إلى باب الغفران مبادرةً تقطع خواطر الوساوس والتردد! فيتوب إلى الله متاباً! فأكد التوبة ههنا بالمصدر، ولم يؤكد العمل كما في الآية الأولى؛ لأن العمل هنا ما يزال في مرحلة برزخية، فاحتاج إلى مبادرة الانطلاق، وسرعة تنفيذ القرار؛ ومن هنا أكد التوبة بما هي عزيمة وجدانية، وهجرة روحية إلى الله تعالى! وجعل ذاته تعالى غايتها، فقال سبحانه: ([/FONT][FONT=&quot]فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً[/FONT][FONT=&quot]!) وهذا معنى آخر غير الذي في الآية الأولى. إنه متعلق ببيان كيفية التوبة وبمنهجية تطبيقها على المستوى النفسي خاصة! بما يضمن سلامتها من النقض والتردد! فله الحمد بما أكرمنا به من بيان لمسالك التوبة والغفران! وكل ذلك إنما هو من فيض رحمته جل علاه![/FONT][FONT=&quot][/FONT][/FONT]
    [FONT=&quot]فماذا تنتظر بعد ذلك يا صاح؟ ماذا تنتظر؟ وها الزمن يتفلت من بين يديك! وها الشيطان لك بالمرصاد! والروح على وشك الغرق! والرحمن - جل جلاله - مِنْ عَلُ يناديك، ويمد لك أسباب النجاة! فعجباً لماذا لا تمد يدك؟![/FONT]

    [FONT=&quot][1][/FONT][FONT=&quot] متفق عليه.[/FONT]

    [FONT=&quot][2][/FONT][FONT=&quot] أخرجه مسلم.[/FONT]

    [FONT=&quot][3][/FONT][FONT=&quot] ذكره القرطبي رحمه الله في تفسيره نقلا عن غيره، ورَدَّهُ. الجامع: 13/75.[/FONT]

    [FONT=&quot][4][/FONT][FONT=&quot] تفسير الطبري: 5/219.[/FONT]

    [FONT=&quot][5][/FONT][FONT=&quot] تفسير الطبري وابن كثير للآية.[/FONT]

    [FONT=&quot][6][/FONT][FONT=&quot] متفق عليه.[/FONT]

    [FONT=&quot][7][/FONT][FONT=&quot] أخرجه مسلم.[/FONT]

    [FONT=&quot][8][/FONT][FONT=&quot] أخرجه مسلم.[/FONT]


     
  4. بن أفراعي

    بن أفراعي عضو جديد

    رد: المجلس الرابع عشر:في مقام الانتساب إلى مدرسة عباد الرحمن في الاقتصاد المادي والمع

    الحمد لله والصلاة على رسول الله

    حقيقة إن هذه الآيات فيها من الدلالات والعبر وبصائر من تخلق بها كان حقا عبدا من عباد الرحمن الذين يعرجون إلى الله كل لحظة وحين كما تعرج الملائكة إلى ربها سبحانه وتعالى فإن كان لهؤلاء الملائكة أجنحة،فإن لعباد الرحمن هؤلاء أجنحة يسيرون بها إلى الله والمتمتلة في تلك الصفات المذكورة،لكن يبقى أهم الأجنحة هو:
    عدم الإشراك بالله أي الإخلاص للواحد القهار،لذلك قال أحد العارفين بالله:لو دعوت الله أن يرزقك الإخلاص ألف مرة ما كنت من المكثرين.
    وثاني جناح في الأهمية التوبة النصوح المستمرة والدائمة.
    فهاذان الجناحان كفيلان بالعروج بالعبد إلى الله في كل أحيانه ينافس الملائكة العظام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون.
    اللهم اجعلنا من التائبين المخلصين الثابتين على الحق من عبادك المكرمين يا أرحم الراحمين اللهم ارحم والدينا ومن علمنا ومن له الفضل علينا وانصر الإسلام والمسلمين.
    وعذرا عن الغياب عن المجالس السابقة.
     
    آخر تعديل: ‏23 مايو 2010
  5. أيوب

    أيوب مشرف ساحة مشاريع الفطرية

    رد: المجلس الرابع عشر:في مقام الانتساب إلى مدرسة عباد الرحمن في الاقتصاد المادي والمع

    الاستماع إلى الآيات:

    [media]http://www.m5zn.com/uploads/2010/5/30/embed/05301003053586cgiqu16w0909iidlli.wma[/media]​
     
  6. أيوب

    أيوب مشرف ساحة مشاريع الفطرية

    رد: المجلس الرابع عشر:في مقام الانتساب إلى مدرسة عباد الرحمن في الاقتصاد المادي والمع

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    سأل عباد الرحمان الله النجاة من النار، فأرشدهم جل وعلا إلى ما ينبغي تركه للنجاة منها. فكل ما جاء بعد ذكر النجاة من النار، جاء في سياق النهي عن الفعل، وليس في سياق الأمر بالفعل : " لم يسرفوا " ، " لم يقتروا " ، لا يدعون مع الله إلاها آخر "، لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق "، "لا يزنون "، فهذه ذنوب كبائر، نتيحة مقترفها هي النار والعياذ بالله. : " ومن يفعل ذلك يلق أثاما ..."

    فعندما يصل عبد من عباد الرحمان إلى درجة طلب النجاة من النار بعد المبيت قائما لله جل وعلا، يكون قلبه خاشعا متصدعا من خشية الله، مستعدا لكل أمر من الله كيفما كان ليطبقه لينجو من النار، فجاء الأمر من الله بترك ماذُكِرَ، لمن أراد النجاة فعلا وصدقا ، نسأل الله جميعا النجاة، فهذه خمس موبقات، أخطرها أوسطها : الشرك، ثم قتل النفس، ثم التقتير إلى درجة منع الزكاة الركن، ثم الزنا، ثم الإسراف. هذه خمس لا بد من الحذر منها بل وعدم الاقتراب منها، "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا"، فهذه خمس ينبغي الهروب منها، والمسارعة إلى التوبة إن زل المرء ووقع في بعضها، لمن أراد فعلا أن ينجو من النار، نسأل الله النجاة.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
     
    آخر تعديل: ‏5 يونيو 2010
  7. خادم الدين

    خادم الدين الإشراف

    السلام عليكم ورحمة الله تعالى و بركاته

    بارك الله فيك أخي الفاضل أيوب فقد أبصرت معان جليلة أرجو من الله تعالى أن يوفقنا لفهمها و للتخلق بها, انه على كل شيء قدير.
    نعم ,فكلما كان للمؤمن خلوات مع الله ثبت الله قلبه و صار أكثر استعدادا لاستقبال أوامره و نواهيه ,و صار أحرص على محاسبة النفس و التوبة من الذنب في الحال دون تسويف ,و هذا من ثمرات قيام الليل و الخلوة مع الله بصفة عامة .
    و قد سمعت أحد أهل العلم يقول _في ما معنى كلامه_ أنه لا بد لكل داعية من خلوة و جولة ,فلا يجب أن تلهيه خلوته عن جولته و لا جولته عن خلوته ,فاذا صحت خلوته صارت جولته خلوة ,فصار بذلك في حياته كلها ساجدا لله في كل أحواله ,و الله أعلم .
    و لعل هذه الايات الكريمة تحمل أيضا منهجا أصيلا في التربية ,فقد بدأ الله تعالى بذكر الأعمال القلبية ,حتى اذا تحقق منها العبد ,نهاه الله عن الكبائر و الفواحش و المحرمات ,فلا بد للداعية أن يخاطب القلوب أولا ,حتى اذا صارت مستعدة لاستقبال الخطاب الرباني ,نهاهم عن كبائر الذنوب أولا ,ثم بشرهم برحمة الله تعالى و فضله عليهم ,و أن عُمرهم الذي قضوه في المعصية لن يضيع بفضل الله تعالى بل سيبدل الله سيئاتهم حسنات ان صحت توبتهم ب أركانها .

    فمما يُستفاد من هذه الايات :
    الحرص على قيام الليل فهو يولد الاخلاص و يجعل المرء أحرص على تمحيص عمله بالنهار و اجتناب كبائر الذنوب و التوبة بعد الذنب دون تسويف .
    الدعوة الى الله على بصيرة ,و مخاطبة القلوب أولا دون الانجراف في الخلافات و التبديع و غيره ,و التدرج أيضا في الدعوة الى الله تعالى فلا ننهى الناس عن ارتكاب صغائر الذنوب و هم منغمسون في الكبائر ...
    الداعية مبشر و ليس منفرا, فباب الرحمة مفتوح على مصراعيه, فلا بد من التحلي بالصبر و عدم القنوط أو اليأس من رحمة الله.قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا .متفق عليه.

    السلام عليكم و رحمة الله
     
  8. المدير العام

    المدير العام الإدارة طاقم الإدارة

    رد: المجلس الرابع عشر:في مقام الانتساب إلى مدرسة عباد الرحمن في الاقتصاد المادي والمع


    - الهدى المنهاجي:

    وينقسم إلى خمس رسالات هي كالتالي:


    - الرسالة الأولى:

    في أن محاربة النفسية الاستهلاكية بقوة! من أهم البراهين العملية والعلامات التصديقية، على حقيقة التحول الإيجابي للمؤمن، وعلى استيعابه لدروس القرآن، وتقدمه الفعلي في فصول مدرسة "عباد الرحمن". فثقافة الاستهلاك الشيطانية تزينها وسائل الإعلام العالمية اليوم للمسلمين، في إطار الحرب العولمية الكبرى على عالم المستهلكين، الذي يتشكل في معظمه من الشعوب الإسلامية بالدرجة الأولى! وإن ذلك التزيين الشيطاني لمن أخطر وسائل إبليس الاقتصادية والثقافية؛ لتدمير الدين والأخلاق في الأمة، ومن أكبر أسباب الانقطاع عن السير إلى الله! سواء لدى الأفراد أو لدى الجماعات! ولذلك جعل الله للإنفاق في الإسلام مقاييس إيمانية خاصة، حدها بحد الحاجة الشرعية. وجعل ذلك من أهم خصائص "عباد الرحمن" في مقابل خصائص "إخوان الشيطان"! وهو الذي فسرته الآية الأخرى من سورة الإسراء، في قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً! إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ! وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً!)(الإسراء: 26-27). والمفسرون على أن ما أُنْفِقَ في طاعة الله ليس من التبذير، وإنما التبذير ما أُنْفِقَ على الشهوات والإسراف في المباحات! فقوله: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي: بالإنفاق العابث على غير أولي القربى والمساكين وأبناء السبيل!

    والغزو العولمي اليوم يرسخ في الذهنية الإسلامية العامة منطق الاستهلاك بدافع "الجديد" فقط! أي ما يسمى بـ"الموضة". وهذا من أخطر المصائد الاقتصادية الشيطانية، ومن أسوأ صور الاستهلاك المذموم في الإسلام! فاقتناء "الجديد" الذي لا حاجة لك به هو الإسراف الممنوع ذاته، والتبذير الشيطاني عينه! فالتزيين الاقتصادي في منطقه العولمي المعاصر، يعرض على الإنسان زيادةَ الخدمات فيما جَدَّ من تصنيع الآلات والمقتنيات بشتى أنواعها، ميكانيكية، وإلكترونية، ونسيجية، إلى غير ذلك من سائر المركوبات والملبوسات والمفروشات، وجميع الآلات والأدوات...إلخ. كل ذلك يعرضه لك السوق الشيطاني اليوم بما جد فيه من إغراءات الرفاهية الزائدة عن الحاجة! فيقع الشهوانيون في الفخ؛ بشراء الجديد والتخلص من القديم! مع أن ذلك القديم ما يزال في جِدَّتِه؛ لأن الجِدَّةَ في الحقيقة إنما هي الكفاية في الخدمة. وهذه ما تزال حاصلة في تلك السلعة التي عندك، ولا حاجة تدفعك إلى هذا الجديد الكاذب، إلا كونه "موضة" اللحظة! نعم، قد تكون فيه خدمات جديدة وكثيرة، لكن لا حاجة لك بها، ولا وظيفة لها عندك! فيكون شراؤها آنئذ من صميم التبذير الشيطاني، والإسراف الشهواني! وقد لقي عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - أحد الناس يوما وهو يقلب دينارا بيده، فقال له: ما أنت فاعل بذلك الدينار؟ فقال الرجل: اشتهيت لحماً؛ فأريد أن أشتريه. فنطق عمر - رضي الله عنه - بحكمته الرفيعة، التي هي ترجمة لقاعدة من أهم قواعد الاستهلاك في الإسلام، قال: (أَكُلَّمَا اشْتَهَيْتُمْ اشْتَرَيْتُمْ؟) مفرقا بذلك بين منطق "الشهوة" ومنطق "الحاجة" في الاستهلاك والتدبير.

    فالمنتسب لمدرسة "عباد الرحمن" إنما يشتري ما يشتري؛ بناء على منطق الحاجة الشرعية، مما هو سيوظفه فعلا في منافعه الدينية والعمرانية، المادية والمعنوية، من أكل وشرب ولباس وسكن، أو غير ذلك مما يحتاجه في مجال المهن والاختصاصات والتجارات والوظائف المختلفة، مما لا تقوم حاجته ولا تتيسر حياته إلا به.

    وإنما وجب التنبيه إلى أن استعمالنا لمصطلح "الحاجة" هنا ليس بالمعنى الأصولي المقاصدي الدقيق للكلمة، وإنما هو بالمعنى الفطري العام، الذي يلبي الحاجة الفطرية للإنسان، والذي يتضمن المراتب المقاصدية الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات. فكل ذلك داخل في معنى "الحاجة الشرعية" بالمعنى الاقتصادي في الإسلام. وما تَجاوَزَهُ كان داخلا في معنى التشهي المذموم والتبذير الملعون! فالتحسينيات والجماليات مثلا، حاجة فطرية في الإنسان، لها قَدْرٌ مشروع، هو قدر الحاجة إلى الجمال التحسيني الذي فُطِرَ عليه الإنسان، فما جاوزه كان إسرافا. والثقافة العولمية اليوم تدمر مقاييس الفطرة في الإنسان؛ بأن توهمه بأنه في حاجة إلى كذا وكذا؛ بما تعرض عليه من إغراءات وخدمات زائدة، مما لا حاجة له فيه بالفعل! ولذلك فقد يشتري الإنسان ما لن يستعمله أبدا، أو ربما يستعمله لمرة واحدة أو مرتين، وهو إنما صُنِعَ أصلا للاستعمال اليومي! والأدهى من ذلك أن يكون لديه من هذا المقتنىَ مثلُه، مما لا يزال يلبي حاجته كاملة بلا نقصان! فيهدر منافعه هدرا! وهو أمر واقع في حايتنا اليومية كثيرا! وهذا هو الضلال عينه! وقد نزه الله عنه "عباد الرحمن".


    - الرسالة الثانية:

    في أن من علامات النجاح والتقدم في فصول مدرسة عباد الرحمن، الوصول إلى مرتبة استقذار الشرك والكفر وكبائر الذنوب وسائر المعاصي، استقذارا يجعل المؤمن في أمان من الوقوع فيها وحفظ من ملابستها! وهذا في الحقيقة مقام إيماني رفيع؛ لما له من تحويل الذوق الإنساني من ذوق بَهَمِيٍّ سقيم إلى ذوق إيماني سليم. وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حلاوةَ الإيمانٍ: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لاَ يُحِبُّهُ إلاَّ لله، وأن يَكْرَهَ أن يَعُودَ في الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أن يُقْذَفَ في النَّارِ!)([1])

    فانقياد الذوق لله لهو من أكبر علامات عمق الصلاح! ومن أهم العلامات فيما قطعه العبد السائر من المسافات إلى الله! ولذلك فمن ما زالت نفسه تشتهي الحرام وتتوق إليه، ولو لم يقترفه فهذا ما يزال مهددا بالمرض. وليس معناه أن المؤمن لا تتحرك نوازع الشهوة في نفسه، كلا طبعا! وإنما القصد أنه يستقذر صورها المحرمة، ولا تتوق نفسه إلا إلى حقائقها الطيبة المباحة، في المشرب والمطعم والمنكح، وغير هذا وذاك. وهو معنى من معاني قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ!)([2])


    [1]
    متفق عليه.

    [2]
    قال ابن رجب الحنبلي: "حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح" جامع العلوم والحكم: 386. وقال ابن حجر في الفتح: "أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات. وقد صححه النووي في آخر الأربعين" فتح الباري: 13/289.



     
  9. المدير العام

    المدير العام الإدارة طاقم الإدارة

    رد: المجلس الرابع عشر:في مقام الانتساب إلى مدرسة عباد الرحمن في الاقتصاد المادي والمع


    -
    الرسالة الثالثة:

    في عدم المجازفة والمغامرة بالترخص في انتهاك المحرمات الكبرى؛ بتحليلٍ غير سليم! وأن على المؤمن الصادق أن يتهم الفتاوى الصادرة بذلك، وأن يقف منها موقف الاحتياط الشديد، خاصة منها ما تعلق بالدماء! فإن بعض من سلكوا طريق الدين قديما وحديثا، قد استدرجهم الشيطان إلى ارتكاب كبائر من عظائم الأمور، قتلا وتشريدا، وانتهاكا لحرمات الله، ولأعراض المسلمين باسم الدين! وما واقع الأمة الحي بين أيدينا اليوم ببعيد! ناهيك عن تجربة الخوارج في التاريخ القديم، وما ورد فيها من أحاديث نبوية صحيحة، حكمت على صلاحهم المزعوم بالنار والعياذ بالله! منها ما رواه أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ – رضي الله عنه - قال: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا - قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ معَ صِيَامِهِمْ، وعَمَلَكُمْ معَ عَمَلِهِمْ! يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أَوْ حَنَاجِرَهُمْ! يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ!)([1]).

    فالحذَرَ الحذَرَ من فتاوى تتجرأ على أمهات الكبائر في الإسلام! وتجازف بهدر دماء المسلمين تكفيراً لهم بغير حق! فتبوء بإثم عظيم وعذاب أليم! ولقد نص النبي على حرمة الدم المسلم في نصوص شتى، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا! الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ! كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ: حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ!))([2])


    -الرسالة الرابعة:

    في أن من علامات فقه المؤمن، وصحة معرفته بالله عدم الاغترار بالله، بمعنى أنه لا يأمن نفسَه أن تُبَدِّلَ وتُغَيِّر، وتنحرف عن طريق الله! فلا ثبات إلا لمن ثبته الله، ولا عصمة إلا لمن عصمه الله، ولا حفظ إلا لمن حفظه الله! ولا شيء من الصلاح والهدى إلا بالله! ومن ظن أنه نَاجٍ بمجرد عمله فقد اغتر بالله! وكان من أكبر الجهلة بربه جل علاه! وقد سبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ! قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ!)([3]) ولذلك كان أكثر دعائه - عليه الصلاة والسلام - وهو من هو في مقام التقوى والورع: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَـبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ!" فقيلَ لَهُ في ذَلِكَ؟ قالَ: إنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إلاَّ وقَلْبُهُ بينَ إصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أقَامَ ومَنْ شَاءَ أزَاغَ!)([4])

    وهذا من كمال التوحيد والإخلاص، ومن تمام الافتقار إلى الله!


    - الرسالة الخامسة:

    في أن من صفات "عباد الرحمن" الشعور الدقيق بضآلة الزمن الأرضي! في سير العبد إلى الله، وتقدير العمر بمقداره القرآني! فلا طول للأعمار قط مهما ظهر أنها طالت؛ لأن العدد الفاني ينتهي بمجرد بداية عده! وكذلك العمر ينتهي بمجرد ولادة صاحبه! إذ يصير الإنسان في حياته الدنيوية إلى عد عكسي لا تصاعدي! لكنه يَعْمَى عن هذه الحقيقة؛ فيغتر بالحياة الدنيا - وإنما هي دنيا - ويلهيه طول الأمل! ولذلك كان عباد الرحمن من التَّوَّابِينَ الْمُسَارِعِينَ! يَتُوبُونَ إلى اللهِ مَتَاباً!


    4- مسلك التخلق:

    فأما المسلك العملي للتدرب على حياة الاقتصاد الإيماني، والتخلص من النفسية الاستهلاكية المدمرة، فهو راجع إلى منهج "التعاون"؛ وذلك بمعاشرة ثلة من الصالحين من أولي العزم، الذين يجتمعون على هذا الميثاق، ويتواصون به وبالصبر عليه! فالحياة الاجتماعية لها دور مهم جدا في إشاعة ثقافة الاقتصاد الإيجابية أو السلبية، على حسب طبيعة المجتمعين عليها. ثم ترفع راية الدعوة إلى هذا المعنى الإيماني العظيم في الإسلام، الذي أهمله - رغم خطورته - كثير من الدعاة اليوم! وإنه لمن أعظم معاني الجهاد الاقتصادي، لو كانوا يعلمون! له ما له من آثار تربوية تعبدية على الفرد والجماعة في الأمة، ثم له ما له من آثار على جبهة التدافع العولمي بين الأمة وأعدائها!

    ثم لا بد لك - في خاصة نفسك يا صاح - أن تقوم بمراجعة حياتك الاقتصادية، فيما يتعلق بطريقة عيشك الخاص، لتراجع حاجاتك الحقيقية، تمحصها واحدة واحدة؛ حتى تميز بين حقها وباطلها. فَتُسْقِطَ من قائمةِ مشترياتِكَ الزوائدَ كلَّها، الواحدة تلو الأخرى، حتى تصفو نفقتك لله، بما يَفِي بحاجاتك المعاشية جميعا، ولا يضيع منها شَيْءٌ هَدْراً.

    ثم لا بد من مداومة النظر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهله، ومشاهدة أحوال الصحابة رضي الله عنهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم؛ فإن ذلك من أكبر الزاد المعين على تحدي ثقافة الاستهلاك الغربية الغازية للبلاد والعباد.

    وأما استقذار الذنوب كبائرها وصغائرها، فيكفي أن تواظب على مشاهدة نعم الله من الطيبات من الرزق، وتعيش حلاوتها متعبدا لله بها، فمن ذاق الحلال متعبدا لم يجد للحرام بعد ذلك في نفسه إلا البغض والاستقذار!

    ثم تلزم الإكثار من التوبة والاستغفار! وتدخل في أورادهما صباح مساء. فذلك من أهم العواصم من موبقات الخطايا والذنوب! والاستغفار وقاية وعلاج. ما ينبغي لمؤمن أن يهمله أبداً! فهو زاد أساسي لا غنى عنه لراكب الطريق إلى الله.
    ثم لا تنس - بعد هذا وذاك - خلوات التقويم والمحاسبة! فإن إهمالها من أخطر الثغرات المنهجية في بناء عمران الروح!


    -----------------------

    [1]
    متفق عليه.

    [2]
    متفق عليه.

    [3]
    متفق عليه.

    [4]
    أخرجه الترمذي عن أم سلمة مرفوعا. وصححه الألباني في صحيح الجامع. وقد روي بطرق أخرى صحيحة عن غير واحد من الصحابة في كتب السنن.



     

مشاركة هذه الصفحة