المجلس السادس : في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!

الموضوع في 'سورة الفرقان' بواسطة المدير العام, بتاريخ ‏23 نوفمبر 2009.

  1. المدير العام

    المدير العام الإدارة طاقم الإدارة


    المجلس السادس
    من سورة الفرقان

    في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!


    1- كلمات الابتلاء:

    وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ؟ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا! لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)


    2- البيان العام:

    السُّنة الإلهية الثابتة في إرسال الرسل، إنما هي قائمة على كونهم بشراً بالقصد الأول؛ لِمَا تقتضيه الرسالة من صاحبها، من الدخول في تكالفيها التعبدية، هو بذاته أولا؛ حتى يكون مبلغا بأسوته وقدوته البشرية، ومترجما بصورة عملية ما يبلغه للناس بلسانه من الوحي. وذلك كله في إطار بشريته المحكومة بالضرورات الطبيعية، التي تحكم جنس الإنسان، متقلبا بين الفقر والغنى، والصحة والمرض، والضعف والقوة، والنصر والهزيمة، والخوف والجوع ..إلخ. مخالطا للناس في معاشهم وأسواقهم، متعاملا معهم في تجاراتهم، وإجاراتهم، وسائر تصرفاتهم. وهو في غمرة ذلك كله مبلغ عن الله بقوله وفعله، وسائر أحواله! وذلك هو عين التحدي!

    تلك إذن هي سنة الله في الرسل جميعهم. سنة ثابتة مستمرة، مؤكَّدة بكل أدوات التوكيد اللغوية والسياقية، كما هو وراد في الآية: (إلاَّ إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعاَمَ وَيَمْشُونَ في الأسْوَاقِ!) وعلى ذلك جُعِلُ ابتلاءُ البشرية بالدين. الدين الذي يوجههم في كل شؤونهم المعاشية والمعادية، من مساجدهم إلى أسواقهم! فإلى أي حد يستطيع الإنسان الصبر على ذلك؟ وإلى أي حد يستجيب لنداء الله – وهو متقلب بين شهوات المال والأعمال - متى ناداه بحكم شرعي في أي شيء من ذلك؟ فيقوم بحق ربه فيه! تلك هي قصة الابتلاء بالدين، والله جل جلاله بصير بعباده: من يشكر منهم ومن يكفر!

    لكن الذين لا يؤمنون بلقاء ربهم؛ لإنكارهم حقيقة البعث والنشور، يملؤهم الكبرياء كلما عُرضت عليهم الدعوة من لدن رُسُلٍ بَشَرٍ. وبهذا المنطق استكبروا على خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فقالوا له بصلف شديد، على سبيل السخرية والتعجيز: هَلاَّ أنزل الله علينا الملائكة نحن أيضا!؟ لتخبرنا مباشرةً بأنك صادق فعلا، أو نرى ربنا ذاته جَهْرَةً عِياناً! فيخبرنا هو بذلك!

    وإن هذا لهو منتهى الغرور والطغيان! وإنه لمنتهى الجهل بالله رب العرش العظيم!

    لقد أُعجِب هؤلاء الكفرة بأنفسهم، واستكبروا استكبارا فظيعا، وطغوا طغيانا كبيرا! إذ تجرؤوا على رب العزة بمقالتهم هذه، التي تقشعر منها أبدان المؤمنين بالله، من الذين يقدرون الله حق قدره؛ لِمَا يعرفون له - جل علاه - من مقام عظيم! فهو وحده الرب المتصرف في ملكه، بما يشاء وكما يشاء! فكيف لجاهلٍ حقير من أضعف خلقه، أن يتدخل في شؤون ربوبيته!؟ فيملي هو على مولاه - جل جلاله – كيف تكون طبيعة الرسول! وكيف يكون شكل الرسالة! ثم يطلب مواجهة ربه بالرؤية المباشرة! هكذا على سبيل الاشتراط على الله ربه ورب العالمين! استكبارا منه وطغيانا! ألاَ ذلك هو الجهل العظيم! (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ! اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ!)(الحج: 74- 75). وكيف يراه هؤلاء الجهلة بشروطهم؟ سبحانه سبحانه! كيف وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه سبحانه وتعالى: (حِجَابُهُ النُّورُ! لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ!)( )؟

    نعم سيرون الملائكة! ولكن بشروط الله لا بشروطهم! سيرونهم عند قبض أرواحهم؛ لتبشرهم بالعذاب الأليم! ثم يرونهم بعد ذلك في عذاب القبر، وفي كل مشاهد البعث والنشور، لِتَزْجُرَ زُمَرَهُمْ يوم الحشر إلى جهنم زَجْراً! بما أجرموا في حق ربهم الخالق العظيم، وفي حق رسوله النبي الأمين! وآنئذ ستقول لهم الملائكة: (حِجْراً مَحْجُوراً!) أي: إن نعيم الجنة محرم عليكم تحريماً..! فالْحِجْرُ: هو الشيءُ المحرَّمُ الممنوع. والقصد هو زيادة تعذيب هؤلاء المجرمين؛ بتيئيسهم من رحمة الله، ولو بعد دهر من العذاب! فهم إلى جحيم دائم أبداً! وفي ذلك في ما فيه من الهول والفزع الذي لا يطاق! ولو بمجرد التخيل في الدنيا، فما بالك بمن وقف عليه هناك، وقد ضاعت منه كل فرص التوبة والعياذ بالله!؟ هؤلاء هم الملائكة الذين سوف يرونهم حقيقةً! وهذه هي المقالة التي سيسمعون منهم جهرةً، لا ما طلبوه تحديّاً وسخريةً، ولا ما اشترطوه على ربهم ورسوله؛ تبجحا واستكبارا!

    وأما الأعمال التي يدعون فعلها على وجه الإصلاح، مما ظاهره الخير والبر، فإن الله تعالى يكشف مقاصده الباطلة، ويفضح حقيقته المخادِعة؛ فيحطمه تحطيما ويجعله هباء منثورا؛ لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان صاحبه فيه خاضعا له، على سبيل التعبد، قياما بحقه العظيم تعالى. فلا صحة لعمل في الدين إلا ما كان مبنيا على الإيمان بالله أولا، إخلاصا له وتعبدا، واتباعا لرسوله المبلغ عنه، خطوةً خطوةً. وأما "الخير" المفعول على سبيل الاستكبار، وتمجيد الذات، وطلب الشهرة والصيت، فهو الشر عينه! وإن بَدَا من ظاهره ما بَدَا!

    ولذلك فلن يفرغوا من حر الحساب الشديد، حتى يُساقوا إلى قضاء قيلولة مُؤَبَّدَةٍ، لكن في حر أشد من حر الحساب! إنه حر جهنم الرهيب والعياذ بالله!

    وفي التفاتة رحمانية من الله إلى عباده المؤمنين الصالحين، يخبر سبحانه وتعالى أن "أصحاب الجنة" لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إنهم في رحمة الله، ينعمون بجمال الطمأنينة الخالدة والاستقرار الكريم، يقيلون تحت ظلال الجنة الوارفة، تجري من تحتهم الأنهار، سالمين آمنين، مكرَّمين منعمين، بعيدا.. بعيدا عن حر الجحيم! فشتان شتان بين المنـزلين! وشتان شتان بين المصيرين! وشتان شتان بين الخلودين!


    يتبع إن شاء الله



     
  2. المدير العام

    المدير العام الإدارة طاقم الإدارة

    رد: المجلس السادس : في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!


    3 - الهدى المنهاجي:

    وهو ينقسم في هذه الكلمات إلى ست رسالات هي كالتالي:


    - الرسالة الأولى:

    في أن الداعية الحق إنما هو الذي يقود الناس بتدينه من وسط الابتلاء الاجتماعي، قدوةً صادقةً حقيقيةً. والذي يدخل تحت ربقة الشريعة عبدا لله، مع عامة الناس! فالداعية هو إمام العامة والخاصة جميعا، كلهم عنده سواء. ولا يكون كذلك إلا إذا حقق عبديته لله على أجمل صورة من التواضع، والانخراط في مجتمع العامة. فهو قدوة الخلق بما هو عبد الله الفقير إلى الله. وتلك سنة الله في الأنبياء من قبل، كما ورد في قصة نوح عليه السلام، إذ قال تعالى: (فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمُ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ!)(هود: 27).

    وقد ذكر الإمام الطبري - رحمه الله - أن نفرا من كبراء قريش جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوه ((قاعدا مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، في أُنَاسٍ من ضعفاء المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم! فأتوه فقالوا: "إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تَعْرِفُ لنا العربُ به فضلَنا! فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العربُ مع هؤلاء الأَعْبُدِ! فإذا نحن جئناك فاطردهم! فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئتَ!))( ) فأنزل الله - جل جلاله - قوله تعالى: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ!)(الأنعام: 52)

    ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين!)( )
    فالداعية لا يكون على القدوة السوية حتى يكون إماما في الدين لأمثال هؤلاء! ولا يستطيع أن يكون كذلك إلا إذا عاش بينهم! وصلى في مساجدهم، وأكل طعامهم ومشى في أسواقهم! وينبني على ذلك من الهدى:


    - الرسالة الثانية:

    في أن من التلبيس الشيطاني الذي قد ينحرف بالداعية عن المنهاج القرآني، أن يتوهم بأن عليه أن يحتجب عن الخلق، أو أن ينعزل في برج عالِمِيَّتِهِ بعيدا عن هموم الناس، وبعيدا عن آلامهم وآمالهم، متفرغا للتوجيه والنصح من بُعْدٍ، أو من وارء حجاب! محاطاً بخاصةٍ من أهل المال أو أصحاب الوجاهة الاجتماعية أو السياسية، أو نحو ذلك. ثم يتوهم أنه بذلك مؤد لحق النذارة. بل وجب عليه أن يخالط عامة الناس بذاته! خاصتهم وعامتهم، مثقفيهم ودهماءهم، ليتعرف على أدوائهم وأهوائهم. فالطبيب الذي لا قدرة له على التشخيص لا يمكنه أبدا أن يصف الدواء!


    - الرسالة الثالثة:

    في التنبيه على عدم الانشغال بمجادلة المنكرين للقاء الله بعثاً ونشوراً، إلا قليلا. وضرورة الاهتمام الأكبر - بدل ذلك - بمن يؤمن بالبعث ابتداء، مهما كان منه من فسوق وضلال، وهم سواد الأمة الأعظم؛ إذ الإيمان بالآخرة يعتبر بذرة خير عظيم، قابلة للإنبات بإذن الله، مهما بدا على صاحبها من انحراف.


    - الرسالة الرابعة:

    في تنبيه المؤمن إلى عدم الاغترار بما ينجزه الكفار بالله واليوم الآخر، من الأعمال "الخيرية" العامة، في سياق الخدمات المدنية، والمساعدات الطبية والإغاثية... إلخ؛ لأن ذلك كله وما في معناه إنما هو ضرب من تحقيق "الأنا"! والاستمتاع بالأضواء الإعلامية، والتمتع بالبطولات الفردية والجماعية، أو بالمقاصد السياسية والمواقع الاجتماعية...إلخ. تماما كما حقق حاتم الطائي قديما لَذَّتَهُ وذاتَه، في كرمه وجوده؛ بما نال من اشتهاره وانتشار ذكره في الآفاق! وقد ثبت في الصحيح أنَّ مِنْ أول مَنْ تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة رجالاً فعلوا مظاهر عظيمة من "الخير"، ولكن كل ذلك كان تَسْمِيعاً وشُهْرَةً ورياءً؛ فأبطل الله أعمالهم وكانوا من أهل النار!

    وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه، رجل استُشهد فأُتِيَ به فعرَّفَهُ نعمَه فعرَفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشهدت! قال: كَذَبْتَ! ولكنك قاتلتَ ليقال جريء؛ فقد قيل! ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار!

    ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرَفَها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت! ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالِم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ؛ فقد قيل! ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار!

    ورجلٌ وَسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك! قال: كذبتَ! ولكنك فعلتَ ليقال: هو جواد؛ فقد قيل! ثم أمر به فَسُحِبَ على وجهه، ثم أُلْقِيَ في النَّارِ!)( ) وفي رواية أخرى زيادة صحيحة، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّرُ بهم النارُ يوم القيامة!)( )


    - الرسالة الخامسة:

    في أن حجاب الغيب شرط من شروط "التكليف" بمعناه الرسالي الابتلائي! فإذا ارتفع الغيب ارتفع التكليف! فلا قيمة لعمل في الإسلام لم يبن على الإيمان بالغيب؛ ومن هنا كان جوهر التربية الإيمانية معتمدا على ربط المؤمن بالغيب إيمانا وعملاً. (إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ!)(فاطر: 18)، (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ!)(الحديد: 25). والمؤمن مطلوب منه أن يتزود في سيره إلى الله من معين الغيب أبدا. والداعية مطلوب منه أن يسترشد بنفحات الغيب في دعوته إلى الله أبدا.


    - الرسالة السادسة:

    قد تبين أن طلب المؤمن كشف الغيب، والسعي إلى ذلك قصداً، ولو في بعض الجزئيات؛ بدعوى طلب الكرامات أو إظهارها للناس، مخالف لمنهج الإسلام في الدعوة والتكليف! وإنما الكرامة الشرعية هبة من الله، ولا تكون للعبد الصالح عادة إلا عند الضرورة. فهي من المواهب وليست من المكاسب. وأما التعبد بقصدها لذاتها، فهو من خوارم الإخلاص!


    4 - مسلك التخلق:

    فيا قلبي العليل! أمامك الآن تحديان اثنان، هما خلاصة هذا المجلس. الأول: تحقيق العبدية الخالصة لله من وسط المجتمع العام، دِيناً ودَعْوَةً. والثاني: مراجعة عملك كله، على مقياس القَبُولِ الإلهي؛ قصد تصحيحه لله! وإلا فذلك هو الخسران المبين لا قدر الله!

    فأما الأول: فمسلكه قرارٌ روحي تتخذه، ونقلة وجدانية تنجزها، وعزمة فاصلة قوية تدخلها؛ للتجرد من أطماع الدنيا؛ حتى تكون عاملا للآخرة فقط! فآنئذ يمكن أن تكون رجل العامة وإمام المستضعفين المؤمنين حقا! تدخل ابتلاء الدين بصلواتك وصيامك وزكاتك، في قلب محيطهم حتى تكون منهم وإليهم. وليس ذلك بالأمر اليسير، فما دامت لك عينٌ تميل إلى ترف الدنيا فإنك لن تستطيع الفكاك! فاقطع حبال التراب يا قلبي وانطلق!

    وأما الثاني: فمسلكه أن تشاهد بوجدانك موقفك بين يدي الله يوم القيامة، وقد غضب جل جلاله غضبته الكبرى! فاسأل نفسك: أي عمل تسطيع أن تدعي الإخلاص فيه له وحده؟ لا سمعة ولا رياء مهما قلَّ أو خفي؛ عسى أن يسلم لك؟ ألا تخشى أن يقال لك أنت أيضا: كذبت! وتكون المأساة! فاللهَ اللهَ في عملك! واللهَ اللهَ في دينك قبل فوات الآوان! حَقِّقْهُ خَفْقَةً خَفْقَةً، وكَلِمَةً كلمةً، وخطوةً خطوةً، وركعةً ركعةً، وسجدةً سجدةً، ودِرْهَماً دِرْهَماً..! عسى أن تكون من الْمُسَدِّدِينَ الْمُقَارِبِينَ. فإذا بَلَغْتَهَا فقد وصلتَ إذنْ؛ فأبْشِرْ! وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – هو الذي يبشرك بقوله الكريم: (إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولا يُشَادُّ الدِّينَ أحَدٌ إلا غَلَبَهُ! فسَدِّدُوا، وقَارِبُوا، وأبْشِرُوا، واستعينوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ، وشَيْءٍ من الدُّلْجَةِ!)( ).


    محبكم فريد الأنصاري


    -----------------------------


    الهوامش :

    [font=&quot][1][/font][font=&quot] رواه مسلم.[/font]
    [font=&quot][2][/font][font=&quot] تفسير الطبري: 7/201. والقصة مختصرة في صحيح مسلم.[/font]
    [font=&quot][font=&quot][3][/font][/font][font=&quot] رواه ابن ماجه وعبد بن حميد عن أبي سعيد. ورواه الطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت. وقال الشيخ الألباني: صحيح. حديث رقم: 1261 في صحيح الجامع.[/font]
    [font=&quot][4][/font][font=&quot] رواه مسلم.[/font]
    [font=&quot][font=&quot][5][/font][/font][font=&quot] رواه الترمذي والخاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع.[/font]
    [font=&quot][font=&quot][6][/font][/font][font=&quot] رواه البخاري.[/font]



    ــــــــــــــــــــــانتهى.


     
  3. محمد

    محمد مشرف ساحة القرآن الكريم في حياة الرسول صلى الله عل

    رد: المجلس السادس : في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

    أجل ، أجل ما أحوجنا اليوم إلى الداعية المسلم أو قل العالم المسلم الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره!
    إن سادتنا الأنبياء الخلص الكمل إنما كانوا بشرا ! وهم بحكم بشريتهم هذه قد كانوا مدعوين إلى مخالطة الناس في شؤون حياتهم اليومية حتى يتسنى لهم العيش أولا (وقد امتهن كثير منهم ما نعلمه من المهن)، ثم هم مبلغون عن الله بمنهج القدوة ، ولا تكون هذه القدوة ملزمة إلا إذا تحقق الخضوع للتحديات ذاتها والإكراهات عينها هم و أقوامهم.
    إننا أيها الإخوة نؤمن بأنبياء الله جميعا ونحبهم و نقتدي بهم:
    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ------ إن التشبه بالكرام فلاح
    و هذا أحد مفاتيح الإيمان وأركانه بدءا:
    (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله) ( البقرة ، 285)
    وإذن فنحن اليوم ، بحكم إيماننا بهم واتباعنا لهم، بحاجة إلى جرعة كبيرة من التواضع حتى نعالج أدواء نفوسنا المتأسدة ،
    وآنئذ فقط ننطلق في المجتمع بالقرآن مبلغين ولو آية واحدة (المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ..).
    تلكم هي الرسالة التي ما فتئ علماؤنا الربانيون يحملون سرجها في دروب المجتمع المظلمة.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
     
    آخر تعديل: ‏23 نوفمبر 2009
  4. سعد

    سعد مشرف ساحة الدعوة الإسلامية

    رد: المجلس السادس : في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!

    السلام عليكم و رحمة الله،

    ارجع قليلا إلى وراء... إلى قول الكفار : "ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق. لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا". انظر كيف يستنكرون كون الرسول بشرا، و كأنه لا يصلح لحمل الرسالة إلا مخلوق من جنس آخر كالملائكة. هذه دعواهم..

    و هي دعوى إبليس من قبل، عندما أبى السجود لآدم عليه السلام : "أنا خير منه. خلقتني من نار و خلقته من طين". هذه المقارنة، و هذا القياس الباطل.. هل هو رؤية سطحية فحسب؟ أم شيء أعمق و أخطر؟

    إنه الاستكبار! هذا إبليس يرى نفسه خيرا من آدم.. و هؤلاء كفار قريش ينظرون إلى الرسالة النبوية بنفس الطريقة، فتراهم في هذه الآيات يصرحون بذلك تصريحا : "لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" بعد أن كانوا يسترون ذلك بحجاب من العقلانية في قولهم "لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا".


    و في هذا بصائر :

    ـــ أن الكفار يعمدون دوما لقاعدة "الهجوم خير وسيلة للدفاع". فزوجة العزيز تبادر يوسف عليه السلام بالتهمة "ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم" لتدفعها عن نفسها. و كفار قريش في هذه الآيات يهاجمون نبي الله صلى الله عليه و سلم لتغطية الكبر الدفين الذي يحترق في صدورهم..

    ـــ أن العنصرية و الاعتزاز المفرط بالذات أو الوطن أو العرق هو من أثر الاستكبار، و هو يؤدي إلى الاستكبار.. حلقة جهنمية بعضها من بعض..

    و يأبى الله جل شأنه إلا أن يذل هؤلاء المستكبرين : "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين". فإذا كان هذا أول ما ينتظرهم في هذا العالم الجديد، فكيف بما سيأتي... في يوم لا نهاية له؟؟

    نسأل الله العافية.

    و السلام عليكم و رحمة الله.
     
  5. أيوب

    أيوب مشرف ساحة مشاريع الفطرية

    رد: المجلس السادس : في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خيرا أحبتي في الله على ماتبذلونه من جهد، وعلى ما تحملونه من هم لتنزيل مشروع أستاذنا رحمه الله واجزل له العطاء، فاثبتوا وفقكم الله وأخلصوا القصد له سبحانه وحده، ولا تستسلموا رغم المعوقات العديدة كالعمل وقلة الوقت والتعب إلى غير ذلك، فجزاكم الله كل خير.
    يقول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو خير المؤمنين وأفضلهم، فكان بذلك أكثر المؤمنين مخالطة للناس وصبرا على أذاهم، بل هو صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم إلا من أجل مصلحتهم هم، بدعوتهم إلى الإيمان وإلى إنقاذ أنفسهم من النار، فما يزيدهم ذلك إلا بعدا وكفرا ومجازفة بالنفس في ما لا تحمد عقباه والعياذ بالله، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا لشيء غير رسالة القرآن، التي نتمنى من الله جل وعلا أن يشرفنا أيضا بحملها على كواهلنا، وإنها لثقيلة، "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا"، فإذن، بما أننا نحمل نفس الرسالة التي حملها رسول الله قبل، فما علينا إلا أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم في كيفية حملها، من قيام لليل ، "قم الليل إلا قليلا" حتى تتمكن من حمل الرسالة فإنها ثقيلة، وكذلك من مخالطة للناس وصبر على أذاهم، ما أمكننا ذلك، عسانا نكون بذلك متبعين لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حمل رسالة القرآن الكريم.
    والحمد لله الذي جعل رسله بشرا يقتدى بهم لكل من أراد الدعوة إلى الله على مدى الأزمان، فقد جعلهم جل وعلا فتنة للناس وجعل الناس فتنة لهم، وذلك بسبب طبيعتهم البشرية، كما في الحديث القدسي في صحيح مسلم: "يقول اللّه تعالى إني مبتليك ومبتل بك" ، وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خيَّر بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً ، فلو كان ملكا لما صح لكل الناس عامة والدعاة إلى الله خاصة الاقتداء به، فكان صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك يتعرض للأذى في طريق الدعوة، وكذلك سيكون لكل من أراد أن يسلك ذلك الطريق، فلنعد أنفسنا أحبتي في الله إلى تحمل المشاق وإلى مكابدة الآلام وانتظار الآمال، فلذلك أنهى الله هذه الآيات بسؤال تحفيزي أنهى به هذا الحزب قائلا: "أتصبرون؟" فلا يسع قارئه إلا أن يقول : "إن شاء الله أصبر" فيكون بذلك بائعا نفسه لله مع الذين يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم؛ " وكان ربك بصيرا" مراقبا لكم : هل ستوفون بالعهد أم أنها مجرد لحظات من الحماس أخرجت كلمات من الأفواه ولما يتشربها القلب بعد، نعوذ بالله من ذلك، فلنثبت أحبتي في الله، فإن الطريق من هنا، من هذا القرآن، ولا طريق في هذا الزمان وفي سائر الأزمان إلا من خلال هذا القرآن، وإنه لصعب طوبل محفوف بالأشواك، نسأل الله الثبات والتوفيق، وإنما الموفق من وفقه الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
     
    آخر تعديل: ‏29 نوفمبر 2009
  6. أيوب

    أيوب مشرف ساحة مشاريع الفطرية

    رد: المجلس السادس : في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    أحبتي في الله، الإخلاص أساس لكل عمل، ولا قبول لعمل إلا أن يكون لله خالصا وأن يكون صوابا، وإنه لموقف شديد ذاك الذي ينادى فيه على الذين تسعر بهم النار، وقد كانوا علماء قراءا، أو مجاهدين أو كرماء، وإنها لنهاية بئيسة لصاحب العمر المقضي في طاعة، ولكن ليست لله، فتكون النهاية :" فيقول الله كذبت، وتقول الملائكة كذبت"، وإنما فعلت ليقال فلان كذا، وقد قيل، أي أنك قد أخذت ما كنت تريد، لأن:" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" وقد أخذت ما نويت، فليس لك الآن إلا النار ، أجارنا الله منها.
    وذلك قول الله جل وعلا: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا"، وقد يدخل أحدنا الشيطان، فيقول له محاولا أن يبعده عن الإخلاص، وموهما ومموها: إنما أنزلت هذه الآية في الكفار، فلا علاقة لك بها، وإنما جوابه: وما يؤمنني أن يعذبني الله بعذاب الكفار، ألم يقل جل وعلا: "واتقوا النار التي أعدت للكافرين" ؟ ألم يقل في وصف عذاب الكفار: "لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، ذلك يخوف الله به عباده، ياعباد فاتقون"، فالهدف هو التخويف، أراد الله أن يخوفنا فلنخف ولنستجب، ولنحذر من مداخل الشيطان فهي عديدة غامضة، ولنجرد القصد لله سبحانه وحده دون سواه.
    " قل هل ننبئكم بالأخسرين اعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القايمة وزنا"
    نسأل الله النجاة بالإخلاص له سبحانه في القول والعمل، ونسأله أن يجعلنا من أصحاب الجنة الذين هم خير مستقرا وأحسن مقيلا.
    و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
     
    آخر تعديل: ‏2 ديسمبر 2009
  7. محمد

    محمد مشرف ساحة القرآن الكريم في حياة الرسول صلى الله عل

    رد: المجلس السادس : في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!

    السلام عليكم و رحمة الله

    سبحان الله ! ألم يكن قادرا جل في علاه أن يجيب عن أنبيائه هذه الشرذمة من " الذين كفروا " بما يفحمهم و يبطل مزاعمهم؟
    بلا ،إنه كان و لا زال قادرا، لكن اقتضت حكمته أن يجعل هؤلاء لأولئك "فتنة" وإذن يعلم، ولا زال سبحانه عليما ، الصابر من غيره.
    و هذه سنته لا تزال ماضية بين ورثة الأنبياء وورثة الأشقياء، أليس كذلك !؟ أليس سبحانه قادرا على نصر المستضعفين من أهل الحق اليوم على زمرة المستكبرين؟
    بلا،لكن من الصابر على الفتنة؟

    اللهم اجعلنا من الصابرين.
     
  8. سعد

    سعد مشرف ساحة الدعوة الإسلامية

    رد: المجلس السادس : في مقام التلقي لطبيعة الرسالةِ، وطبيعة الابتلاء بهذا الدين!

    السلام عليكم.



    قطع حبال التراب يعني أن يستشعر الإنسان أن حقيقة وجوده هي الروح أساسا، وليس الجسد. يعني أن يبصر الإنسانُ الكونَ بواسطة منظار روحي : فيبصر بقلبه الخلائقَ من حوله و هي تسبح الخالق، و يبصر بقلبه المَلَكين يسجلان عليه عمله كلَّه. فمن كان هذا حاله غلب عليه الحياء من الله : كيف أن الله تعالى يستر عيوبه و ذنوبه بهذا اللباس الطيني المؤقت. فأنَّى له آنئذ أن يستكبر في الأرض أو يبغي على الخَلْق؟

    ثم إن من كان هذا حاله، فإنه يٌقَيِّم الناس من حوله على أساس أرواح الناس و ليس أشباحهم. فيعظم أهل الدين و الفضل فيهم، و يرحم أهل المعاصي و الضياع. فيصير بذلك "روحا" تفيض بالخير و البركات على الخلق جميعا.

    و السلام عليكم.

     

مشاركة هذه الصفحة