لماذا تدارس القرآن الكريم حسب ترتيب النزول وليس حسب ترتيب التعبد الموجود الآن في المصحف؟ .. إن هاته المجالس التي سنتدارس فيها كتاب الله تعالى لن نسير فيها على الترتيب الموجود في المصحف المخصص للتعبد، وإنما سنسير فيها على ترتيب آخر هو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لتنزيل هذا القرآن يوم كان يَنْزِل لإصلاح الواقع الذي به تم نقل الناس أول مرة من الجاهلية إلى الاسلام واخراجهم من الظلمات إلى النور، الترتيب الذي رسم منهاج الإخراج في ذلك الظرف، وبه تكمن معالم المنهاج الفطري الرباني لمثل ذلك الإخراج في أي ظرف الترتيب الذي به تم تقسيط الدواء وفق طبيعة الداء فتم باذن الله تعالى الشفاء، ومن معالمه الكبرى في أي عملية اصلاح كبرى -كالحالة التي تحتاج إليه الأمة اليوم- يمكن وصف الدواء للداء، فيقع بإذن الله تعالى الشفاء، وهو منهاج لازم أو شبه لازم بمعالمه، ولكنه ليس لازما -بحال- بحذافيره، لتغير الزمان والمكان والإنسان، ولو أنه كان لازما بحذافيره للزم حفظ ترتيب النزول بكل دقائقه، ولكانت الدعوة توقيفية لا توفيقية ولكان التاريخ يعيد نفسه بكل تفاصيله، ولكان وكان.. وما شيء من ذلك بكائن وإنما الذي كان أن هذا الترتيب الذي عليه نزل القرآن أول مرة لم يبق محفوظا بالضبط حسب الآيات التي نزلت أول مرة، والآيات التي جاءت بعدها، وحسب السور التي نزلت كاملة، والسور التي نزلت بعدها، لم يبق ذلك كما نزل أول مرة وحفظ بدلا منه الترتيب الحالي في المصحف الكريم الذي يلزم الأمة التعبد به بعد أن قال الله تعالى لها : >اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا< وقد كان منتظرا من الأمة الثبات على ما رضي الله عز وجل لها، في كل ظرف وحين، والمحافظة على المستوى الذي أوصلها اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما يقاربه، شكرا للنعمة، وتبليغا للرسالة، وأداء للأمانة، وقياما بالشهادة على الناس. ولكن الأمة للأسف أصابها اليوم ما أصابها، ولو كان الأمر يتعلق ببعض الخروق، وببعض الشقوق في الجدران، أوبعض الثقوب في السقوف والحيطان لكان الخطب هينا، يمكن إصلاحه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن المؤسف أشد الأسف أن التدين في الأمة كاد يكون كما قال الشاعر : فما كان قيس هُْلكُه هُلْكُ واحد ولكنه بُنْيَانُ قَومٍ تهدَّما أجل، تهدم بنيان الدين العام في الواقع. ولاسيما في الجانب الاجتماعي الذي لم يعد يُحْتكم فيه إلى الفقه الاسلامي والأحكام الشرعية، وبعبارة أخرى لا تجد اليوم وزارة الاقتصاد مثلا أو وزارة التجهيز أو وزارة الفلاحة أو وزارة التعليم أو أي وزارة أخرى في أغلب العالم الإسلامي تخطط على أساس المرجعية الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنة بل إن المرجع في الأمور صار أو كاد هو ما لدى "الكفار" بتعبير القرآن، أو ما لدى "الغرب" بعبارة اليوم. وعليه، ونظرا لتهدُّم الدار، وسقوط عمارة الإسلام في زماننا في جميع الجوانب الاجتماعية، (إذ كيف يمكنك أن تنجُو من إثْم التأمين مثلا إذا حاولت أن تمتطي ولو دراجة نارية، فما بالك بالسيارة والطائرة، وكيف يمكنك أن تنجو من غبار الربا ومن آثام التخطيطات الكفرية في مختلف صورها الاقتصادية والإعلامية والسياسية والسكنية والتعليمية...). صار لزاما أن نعود إلى أصل الأمر لننظر كيف هدى اللهُ سبحانه رسولَه عن طريق هذا التقسيط والتنجيم لنزول القرآن الكريم، كيف أعطاه المنهاج في الاصل الاول عن طريق جبريل عليه السلام مباشرة به يهتدي ويهدي الناس بما أراه الله. ذلك المنهاج الذي لم تكن الأمة قبل زماننا هذا محتاجة إليه بهذه الصورة، وبهاته الدرجة التي صرنا نحن محتاجين إليه بها؛ إذ لم يسبق أن وقع هبوطٌ، وبُعْد عن الدين، بهذه الدرجة الموجودة في هذا القرن. وذلك ما جعل الاتجاه العام لدراسة قصص الانبياء عليهم الصلاة والسلام، وقصة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة التي هي السيرة النبوية يأخذ اليوم وجهة أخرى لدى بعض أهل العلم الذين اضطرتهم ظروف من الخلل أن ينظروا هذه النظرات : نظرات اصلاح الخلل، وجعلَ الكلام يكثر عن السيرة و"فقه السيرة"، بل صارت الدراسات تتلمس المنهاج الأصل الذي بُنِيَ به الأمر من الصفر أول مرة وكأن الامور وصلت إلى ما يشبه الصفر. فما العمل يا ترى؟. محاولةً للاجابة عن هذا السؤال الضخم لدى أهل العلم كان هذا الاهتمام بفقه السيرة وبدراسة القرآن وتدارسه من جهة تَرْتِيبِ النزول، ونظام النزول، ليتجاوبا أيضا مع السيرة ويمكن تلمُّس المبادئ والأسس الكبرى التي رُتِّبَ عليها أمرُ إحلال الدين في الواقع أول مرة، لا ليُتَّبع الأمر حَذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ كما يقال، يعني حرفا بحرف، (إذ تغير الزمان وتغيُّر المكان يوجب حتما تغير الوَصْفَة). ولكن لِتَبْقَى الاصول الكبرى والمعالم الكبرى حاضرة، أي تبقى هُدًى يهدي، سواء في قصص الرُّسُل أو السيرة، ولذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم >لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَة لأُولِي الأَلْبَابَ<-سورة يوسف- ورأس العبرة هو فقه المنهاج، ولكل نبي شرعة ومنهاج، يتفقون في أشياء ويختلفون في أشياء. >لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا<. وما قص الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قصصهم وقص علينا قصصهم، إلا لنتفقه فيما ينبغي فِعْلُهُ حين يُوجَدُ ما يشبه ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بأن يَقْتَدِي، وقد اقتدى في عدد من المواقف صلى الله عليه وسلم بفعل الأنبياء السابقين، اقتدى بيوسف مع اخوته كما تعلمون في موقف الفتح، واقتدى بموسى عليه السلام في العقبة، واقتدى بالانبياء في مناسبات كثيرة بأعمالهم وهداهم >أُولَئِكَ الذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ<-سورة الأنعام-. وقد أطلت في هذه النقطة بعض الشيء، لغرابتها بعض الشيء. إذ لا نجد بين علمائنا الذين اهتموا بتفسير القرآن الكريم حسب ترتيب النزول -في حدود علمي- غير عالم واحد من المعاصرين، دَرسَه وحاول بيانه وتفسيره وفْقَ ترتيب النزول، إنه الباحث الفلسطيني رحمه الله "محمد عزة دَرْوَزَة"، الذي سمى تفسيره : >التفسير الحديث<، محاولا فيه أن يخاطب الناشئة بلغة اليوم، ولكن الذي يعنيني منه أنه سار فيه على خلاف بقية المفسرين، إذ بدأه بأول ما نزل، وختمه بآخر ما نزل، حسبما أدَّى إليه اجتهاده، ورُبَّمَا فعل ذلك حين رأى أنَّ فلسطين لم يأتها الاستعمار على طريقة الدول الاخرى بل جاء إجلاءً واستيطاناً يهوديّاً، فوقع ما وقع، وضَاعَتْ البلاد والعباد، فتلمَّس المخرج على أساس النزول الأول الذي أخرج الأمة الخيّرة. وإذن القصد من جعل هذه المجالس : "مجالس تدارس القرآن الكريم" سائرة مع القرآن الكريم وفق ترتيب النزول، الذي أُثِر عن السلف (أنظر كتاب >الاتقان< للسيوطي)، وغيره، هو أن نقف على الهدي الرباني في التجربة الاولى النموذجية الخاتمة، لنعرف كيف صنعها الله عز وجل على عينه؟ وكيف تَمَّ إحلال الدين في الواقع في تلك الفترة وفي ذلك الظرف؟ ما الذي قُدِّم وما الذي أُخّر؟، ما الذي كان إلى جانب الآخر وما الذي كان بعيدا منه؟ كيف كان الاهتمام؟ كيف عولجت المشاكل؟ أسئلة عديدة... كل ذلك نجده إن شاء الله في كتاب الله تعالى ونحن نسير في هذه المجالس، مجالس تدارس القرآن الكريم، ومن هاته الزاوية، فكأنَّ النظر في القرآن إذن ممكنٌ من زاويتين، بتعبير اليوم : زاوية أفقية، وزاوية عمودية؛ أي زاوية دخل فيها عُنْصُرُ الزمن، وتَضَعُ في حسابها اعتبار الزمن، وزاوية لا تضع في حسابها اعتبار الزمن، بل تتعامل مع النص الموجود كما هو في المصحف الآن. تريد أن تدرس موضوعا فتدرسه في القرآن كله، وكأنه نزل دفعة واحدة، ومرة واحدة. بينما الزاوية الأخرى ترصد التطور الذي طرأ من بداية التنزل إلى نهايته؛ التَّطَوُّر الذي طرأ في المواضيع، والتطور الذي طرأ في القضايا، والتطور الذي طرأ في المنهاج عموما، وفي التصور جملة، وكل ذلك متيسر بإذن الله : النظر نظرة أفقية شاملة، والنظر نظرة عمودية متعمقة. فهذه النقطة الثانية. مقتطف من محاضرة لأحد العلماء المغاربة وهو الأستاذ الشاهد البوشيخي