بسم الله الرحمن الرحيم إن مجلسًا يُتدارسُ فيه كتاب الله تلاوةً وتفسيراً وبياناً ودفاعاً بأسلوب راق وبيان شاف لمجلس كفيلٌ بأن تحف الملائكةُ أصحابَه، وأن تغشاهم الرحمة الربانية، وتنزل عليهم السكينة القلبية، إيذاناً بأن الله تعالى رضي عنهم وذكرَهم فيمن عنده، وكذا هي مجالس الشيخ العلامة سيدي مصطفى البحياوي حفظه الله تعالى. ومن مجالِسه القرآنية الرفيعة التي عزّ نظيرُها في زماننا: ما ينعقد هذه الأيام في ضيافة المنتدى الإسلامي بالشارقة كثّر الله من أمثاله في بلاد المسلمين وحَفِظ القائمين عليه، مجلسُ نظم وشرح نُكَت الانتصار لنقل القرآن الذي يرجع أصله للقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني المالكي الأشعري وما أدراك ما الباقلاني، لسانُ السّنة، وسيفُ الأمة، واختصرَه نكتبه واصطفاها الشيخ أبو عبد الله الصيرفي القيرواني، واعتنى بها ترتيبًا الإمام عبد الجليل الربعي القيرواني رضي الله عنهم جميعاً، وعلاقة الباقلاني بالمغاربة معروفة.. وإنه لمن دواعي الاستبشار والسعادة أن نجِد في زماننا مجالس بهذا الرقيّ منهجًا وأسلوباً، حيث يُعتمد فيها على كتب الأكابر التي تعتبر الأمهات في بابها، وناهيك بكتب القاضي الباقلاني. وقد التقطت هنا بعض الفوائد التي ألقاها فضيلة الشيخ في المجلس الأول الذي افتتح به هذه المجالس المباركة، وأحببتُ أن يطلع عليها طلبة العلم ومحبو العلوم عامة والقرآنية خاصة. قال رضي الله عنه: مدخل الحديث عن القرآن ينبغي أن يكون بتَجْلِية أعلامِه التي ليست مجرّد أعلامٍ مَحْضَة، وإنما هي صفاتٌ تترجم عن حقائق في القرآن تصطدم كلا مع مدعى المخالِف. فالعَلَمُ الخاص بالكتاب وهو «القرآن» يرجع لمعنى الجَمع، ويرجع لمعنى الحفظ، فقرأ في اللغة ترِدُ بمعنى جمعَ، وترد أيضا بمعنى حَفِظ، فيقال: قرأ بمعنى تلا من مكتوب، وبمعنى حفِظ. ولذلك فالأصل في قرأ حفظ، أي حفظ حفظاً فيه جمعٌ، ولذا يقع اسم القُرَّاء على الحُفَّاظ، كما يشير إليه قول النبي ﷺ: «يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ»، أي أحفظُكم لكتاب الله تعالى، وقول عمر رضي الله عنه: «إن القتل قد استحرّ بالقراء» أي الحَفظَة، فثبت أنّ عنوان القرآن هو الجَمْعُ والحِفْظُ. وأما السورة فهي طائفة من آيٍ ذاتِ مطلَع ومَقطع وترجمةٍ معرِّفَةٍ توقيفًا، أي لها اسمٌ وُقفت عليه في لسان النبي ﷺ وصحبه، كسورة البقرة، وسورة الكوثر... وهي لغة إمّا من السِّوار، وفيه ملاحظة الإحاطة، وإمّا من التسوُّر وهو الارتفاعُ، كقوله: ﴿ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ [ص: ٢١] أي: ارتقوا وارتفعُوا عليه. أو من السُّورَة بمعنى المنزلة، فالسُّوَر منازِلُ الكتاب لانتقالها بالقارئ من منزلة إلى منزلة أرفع، فإنّ المحصِّل لسُوَر الكتب يرتقي بقدر حفظه، في الدنيا والآخرة، وإليه يشير قوله ﷺ لقارئ القرآن: «اقرأ وارْتَقِ»، فليس من يحفظ سورة كمن يحفظ القرآن كله. وقال النباغة الذبياني: أَلَم تَرَ أَنَّ اللَهَ أَعطاكَ سورَةً ** تَرى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبذَبُ فالسورة ليست المنزلة القريبة الرَّفْعِ فحسب، بل هي المنزلةُ الرفعة ذاتُ الشرف لأنه يحصُل لتاليها وقارئها ومتدبرها ألوانٌ من تحقيق المنازل الرفيعة، ولذا قال الصحابة: «كان الرجل إذا حفظ سورة البقرة جَدَّ في أعيُنِنا»، أي: عَظُمَ في أعيننا، وقال ﷺ: «الماهِرُ بالقرآن مع السَّفرَة الكِرام البَرَرة»، يعني في منزلتهم رفعةً. والسورة أيضا من السُّورِ الذي يَحْفَظُ ما بداخله، فالقريَةُ ذاتُ السُّورِ محفوظةٌ بسورها مصانَةٌ بجدارها. فظهر بذلك أن دلالة الحفظ من لفظ القرآن مستصحَبة أيضا في لفظ السورة، ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد﴾ [فصلت: ٤٢]، وتسمية القرآن لهذه الطائفة من الآيات سُوَرٌ إشارةٌ إلى أنها في غاية الضبط والصيانة بتسويرها. وهنالك أيضا معان أخرى فرعية بدل هذه الدلالات الأصلية تشير إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكتاب. اهـ الشيخ العلامة سيدي مصطفى البحياوي </H5>